أوهام نسائية
المحتويات
بناية ضخمة من ستة عشر طابق، وقفت تحتها تنظر في تردد على اللافتة المعلقة بشرفة بالدور الثاني، لحظات من التردد جعلتها تفكر في العودة من حيث أتت لكنها تغلبت على أفكارها واتجهت للمصعد الذي وقف بدوره أمام العيادة، وبخطوات سريعة تخشى من ترددها الذي ربما يجعلها تلحق بالمصعد مرة أخرى وتهبط معه، أو ربما يجعلها تهرول على الدرج مغادرة هذا المبنى للأبد، اتجهت نحو موظفة الاستقبال وأخبرتها بنبرة جادة:
– فيه حجز النهاردة باسمي الساعة خامسة… مدام منيرة عبد الرازق.
أمسكت الموظفة كشف قد دونت فيه أسماء المرضى بطريقة اعتيادية، ونظرت سريعًا لتلتقط بعينيها اسم منيرة بسرعة ومهارة ثم أجابت منيرة بطريقة تشبه صوت موظفة الرد الآلي على الهواتف:
– مظبوط… حضرتك اتفضلي استريحي، وربع ساعة وتدخلي للدكتور.
اختارت منيرة مقعدًا بجوار الشرفة، كانت العيادة الأنيقة تطل على النيل مباشرةً، منظر النيل الذي تعشقه لم يجذب اهتمامها هذه المرة، فقد كانت مهتمة بالتطلع إلى الشهادات المعلقة على الجدران، بشكل منمق ومرتب، أما أسفلها فكانت تجلس سيدات مختلفة أشكالهن، ووجهاتهن، لكنهن اتفقن على نفس القرار بالجلوس في عيادة الطبيب وترك وجوههن وأجسادهن بين يديه، بمنتهى الثقة، فهو الطبيب الشهير “جواد محفوظ” الذي يظهر على الشاشات، ومعروف لدى رواد مواقع التواصل، فكرة وجود نساء كثيرات في العيادة طمأنتها وهدأت من شعور التوتر وأبدلته ببعض الحماس.
– مدام منيرة عبد الرازق… اتفضلي.
قامت بخطوات بطيئة متجهة لغرفة الكشف، شعور بالخوف جعل أطرافها ترتعش، لكنه بدأ يتلاشى شيئًا فشيئًا عندما استقبلها الطبيب بحفاوة وابتسامة مصطنعة لكنه متمرس في استقبال رواد عيادته فبدت تلك الابتسامة ودودة للغاية:
– مساء الخير أهلًا وسهلًا يا فندم.
جلست منيرة على مقعد يشبه مقاعد أطباء الأسنان في
الشكل، كما يشبهه تمامًا في هذا الإحساس بالرعب والرغبة في الفرار مهما كانت النتيجة، ومهما كان سعر الكشف، لكنها الآن أمام الطبيب، ربما لحظات قليلة وستخرج من هذه العيادة وهي أصغر ربما بعشر سنوات!
نظر لها الطبيب متفحصًا بعين خبير محافظًا على ابتسامته، وأخذ يدون بعض الملاحظات:
– قولي بقى يا سِت الكل عاوزة تعملي إيه… أنا شايف قمر مش محتاج حاجة.
ابتسمت لمجاملة الطبيب وبدأت تسرد عليه قائمة طويلة من الأمنيات المعقولة واللا معقولة، هو كطبيب اعتاد على سماعها، لكن بالنسبة لها كان هو الساحر الطيب أو الجني محقق الأمنيات:
بدأت تشير لأماكن مختلفة من وجهها، بعد أن تلاشى خوفها تمامًا:
– فيه هنا خط الابتسامة ده شايفه؟
وفيه هنا 111 شيلها لي، وعاوزة أرفع الجفون، وعاوزة أشد وشي، بص يا دكتور أنا مش عاوزة حد يشوفني ييجي في باله إن عندي أربعين سنة، أنا مش عاوزة أفتكر أصلًا الرقم ده قدام مرايتي.
كان الطبيب يستمع لها، ويدون ما تقول، وينظر لوجهها بين الحين والآخر ليرى كيف سيقوم بإيقاف زحف خطوط الزمن على وجه هذه المرأة، كل ربع ساعة يرى امرأة بوجه مختلف تحمل أمنيات تلقيها أمامه تدور أغلبها حول رغبتها بأن تبدو أصغر في العمر، اعتاد على سماع شكاوى النساء من الخوف من ظهور التجاعيد، والخطوط على وجوههن، أو الخوف من أن يذهب أزواجهن للارتباط بنساء أجمل وأصغر، كتلك المرأة التي أتت له بصورة فنانة شهيرة ذات يوم وطلبت منه أن يجعلها تبدو مثلها تمامًا لأن زوجها يجلس كالصنم أمامها كما عبرت تمامًا.
ليس حالها مختلفًا عن باقي النساء التي ارتادت عيادة الطبيب منذ افتتاحها، فهي امرأة جميلة، قوامها متناسق، تعمل موظفة بأحد الشركات الخاصة، كانت
طوال حياتها أيقونة للجمال أمام أصدقائها أقربائها وزملائها في العمل، نساء العائلة ينظرن لها كإمرأة من كوكب آخر، لكنهن ينكرن الأمر في التجمعات العائلية، ويصفنها بالعادية المغرورة، أما الرجال فكانوا يحسدون زوجها على هذه الزوجة الجميلة الأنيقة التي لم تتأثر بعوامل الزمن، وكأن الزمن توقف أمام جمالها عاجزًا عن محوه، زوجها تاجر السيارات “محمود سالم معروف” الذي كان صاحب الحظ السعيد يوم عقد قرانه على منيرة، محمود أيضًا رجل أنيق، لا يختلف عن منيرة في المواصفات، لكنه لا يبذل نصف المجهود الذي تبذله منيرة، ولا ينفق المال سوى على اشتراك صالة الألعاب الرياضية، لذلك كانت منيرة تبذل الكثير من الجهد حتى لا يظهر في يوم من الأيام عدد السنوات التي تكبره به، والذي كان سببًا في نصيحة والدتها لها مرارًا قبل الزواج:
– يا بنتي حتى لو مش باين السن دلوقتي، هيبان جوا عقلك، الخمس سنين اللي بينك وبينه هتشوفيهم كل سنة وانتِ بتكبري حتى لو مبانوش على وشك، ده أبوكٍ الله يرحمه كان أكبر مني بكتير، واللي يشوفنا دلوقتي يقول عليه أبويا مش جوزي.
ظلت هذه الكلمات في عقل منيرة تذكرها كل عام في ذكرى يوم مولدها بفارق العمر بينها وبين محمود، الفارق الذي نساه محمود، ولم يتذكره منذ زواجهما، لكنها ظلت في حرب نفسية مع الزمن لإيقافه، تنفق الكثير من الأموال على منتجات البشرة، غرفتها تتزين بعبوات مختلفة الأشكال والأنواع، هذه لخطوط العين، وهذه عبوة من كريم الليل، وأخرى للنهار، كانت تهرول نحو الصنبور لتزيل أثر مساحيق التجميل بسرعة قبل أن تضر ببشرتها إن نست يومًا وخلدت للنوم دون إزالتها، وهناك أيضًا بعض العبوات في حقيبتها الشخصية، السيارة، ودرج مكتبها، لم يكن أحد يعرف كم المعاناة التي تعيشها منيرة، حتى زوجها وأولادها، جميعهم يرونها تمارس طقوس جمالها بكل ارتياح يوميًا، النساء يرونها امرأة سعيدة وجميلة، لديها جسد يحلمن به، ووجه كنجمات السينما، لدرجة أنهن أطلقن عليها “المرأة الفلتر” لشدة نقاء وجهها، ولديها زوج وسيم لم يتأثر بعوامل التعرية التي تصيب الرجال في
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة
