كان لك معايا – الجزء الأول

كان لك معايا – الجزء الأول
كان لك معايا – الجزء الأول
الذكريات جلس يوسف، شاب في الثلاثين من عمره، على كرسيه الهزاز أمام شرفته. كان يمسك بجريدة بين يديه، لكنها بقيت مفتوحة دون أن يقرأ فيها. ترك عينيه تتعلقان بحمام السباحة، بينما صدح صوت السيدة أم كلثوم من مكبر الصوت: “كان لك معايا أجمل حكاية في العمر كله، سنين بحالها ما فات جمالها على حب قبله…” تنهد يوسف تنهيدة عميقة، كأنها حملت معها ألمًا دفينًا. مرت أمام عينيه مشاهد من الماضي: زوجته وابنته يضحكان بجوار حمام السباحة. تذكر ضحكة طفلته الصغيرة، وركضها نحوه عند عودته من العمل، ثم احتضانهما معًا كأنه يحتضن العالم بأسره. تذكر زوجته بملامحها الهادئة، وهي قادمة نحوه بابتسامة مليئة بالحنان. كان يحبها حبًا جمًا، ويبذل كل جهده لإسعادها. عاد بذاكرته إلى أول لقاء بينهما، في حفل زفاف أحد الأصدقاء. كانت ترتدي فستانًا أسود، أشبه بقطعة ملكية في أحد القصور. حينما رآها لأول مرة، وقف في مكانه يتأملها عاجزًا عن النظر بعيدًا. كان حبًا من النظرة الأولى، حبًا غيّر مجرى حياته إلى الأبد. شعر بغصة في حلقه وهو يتذكر اللحظة التي احتضن فيها زوجته لأول مرة. كيف تحولت تلك الأحضان إلى فراغ يملأ حياته الآن؟ قطع تلك الذكريات رنين الهاتف المفاجئ. رفع يوسف الهاتف بتردد، ثم أجاب: ألو… أيوة يا محسن. مش قولتلك مش هقدر أجي؟ الشغل ماشي وأنت موجود، ليه مش هتمضي الأوراق؟ صمت قليلاً قبل أن يضيف: مين “مي” دي؟ طيب، خلاص… ابعتها. سلام. أنهى المكالمة دون اكتراث، ليجد الخادمة قد دخلت الغرفة بصمت، تحمل فنجان قهوة وضعته بجانبه على الطاولة. حضرتك تحب تتغدى إيه النهاردة؟ مليش نفس. لو حسيت بالجوع هبلغك. حضرتك ما بتاكلش خالص، وبقيت تخس كل يوم أكتر… بقالي فترة شايفة الحال ده. رد بعصبية: مش جعان! ليه كل يوم
نفس الكلام؟ انحنت الخادمة برأسها، تتجنب النظر إليه، بينما ارتسمت على وجهها ملامح الحزن والانكسار: آسفة يا سي يوسف. شعر يوسف بالندم، فاعتدل في جلسته وناداها بصوت أكثر هدوءًا: سيدة، أنا آسف. حقك عليا. متزعليش مني. عارفة إني عصبى اليومين دول، وعارف كمان إنك خايفة عليا… بس معلش، سبيني براحتى. أجابت بصوت حزين: حاضر، وأنا في إيدي إيه غير إني أسيبك براحتك؟ في واحدة هتجيلي من الشركة. لما توصل خليها تستنى في الصالون. تحت أمرك. شركة يوسف جلس محسن على مكتبه المرتب بعناية، أمامه ملفات وأوراق متناثرة. كانت تجلس أمامه مي، فتاة في الثلاثينات من عمرها، بملامح هادئة تشع ذكاءً وثقة. ارتدت بدلة رسمية أنيقة، وكانت عيناها تتابعان حديث محسن باهتمام. قال محسن وهو ينظر إلى الأوراق أمامه: الأوراق دي لازم مستر يوسف يمضيها بنفسه. الأوراق دي مهمة جدًا، ومش هقدر أبعتها مع أي حد تاني. ردت مي بنبرة مهذبة: طب هو ليه ما بيجيش بنفسه، لو سمحت لى في السؤال؟ توقف محسن للحظة وكأنه يحاول اختيار كلماته، ثم قال بأسف: من وقت ما مراته وبنته توفوا في حادثة، وهو بقى كده. أوقات هادي جدًا، وأوقات عصبي. كان بيحبها بشكل كبير جدًا، وطبعًا فقدانهم الاتنين كان صعب جدًا عليه. واعتقد المرحلة دي محتاجة وقت طويل عشان يتخطاها. هزت مي رأسها بتفهم: شكله كان مخلص ليها جدًا. ابتسم محسن ابتسامة صغيرة تحمل شيئًا من الحزن: جدًا. المهم، لما تروحي الفيلا وتقبليه، عايزك تكوني هادية معاه جدًا. عصبيته بتخليه ينفعل بسرعة، لكن ثقي إنه شخص محترم ومهذب. ردت مي بابتسامة خفيفة: تمام يا مستر محسن، في أي طلبات تانية؟ لا، شكراً يا مي. السواق هيوصلك وهيجيبك. والله لو كنت فاضي كنت روحتله أنا بنفسي، بس معلش. ولا يهمك يا فندم، أسمحلي. قام محسن بإعطائها الأوراق وأشار
إليها بالانصراف. الطريق إلى الفيلا جلست مي في المقعد الخلفي للسيارة، الأوراق مرتبة بجانبها، والهاتف في يدها، تنظر إليه بعينين تائهتين دون اهتمام حقيقي. في داخلها، كانت الكلمات التي قالها محسن تتردد في ذهنها. يوسف كان يحب زوجته بحب نقي ومجنون، حبًا جعلها تتساءل: هل كانت هي تعرف هذا النوع من الحب؟ تذكرت، بمرارة، كيف أحبت حبيبها السابق بنفس الجنون. كيف أعطته كل شيء، حتى تناست نفسها، فقط لتراه سعيدًا. ولكن بينما كان الفراق بين يوسف وزوجته بسبب الموت، كان فراقها هي بسبب الخيانة. خيانة نزعت من قلبها جذور الأمل، وكأنها اقتلعت الحياة منها بلا رحمة. لكنها تعلمت الدرس. لم تعد تُهدر مشاعرها إلا لمن يستحق. حاولت أن تبعد ذكريات الماضي عن عقلها، حتى لا تدمع عيناها ندمًا على ما مضى. نظرت إلى الطريق من نافذة السيارة لتجد راحة مؤقتة في المشهد المتغير أمامها. سألت السائق بصوت هادئ: فاضل قد إيه يا عم أحمد؟ رد السائق بابتسامة خفيفة: نص ساعة يا آنسة مي، وهنكون وصلنا بإذن الله. أومأت مي برأسها وعادت بعيونها إلى الطريق. رغم محاولتها تجاهل الماضي، وجدت نفسها تفكر في يوسف مرة أخرى. تساءلت: كيف يمكن لرجل فقد من أحب أن يواصل حياته؟ هل يتألم؟ هل يخشى الموت؟ أم أنه وجد في الوحدة عزاءً؟ بدا لها أنه سيكون شخصًا فريدًا، شخصًا يحمل في داخله حبًا لا وجود له في زمنٍ يركض خلف المصالح والمال. قطع أفكارها صوت السائق وهو يناديها: آنسة مي. انتبهت: أيوة؟ وصلنا يا فندم. حضرتك اضربي الجرس، وسيدة هتفتحلك. شكرًا، عم أحمد. رتبت مي الأوراق بجانبها، نزلت من السيارة، واعتدلت قبل أن تمشي بخطوات هادئة نحو باب الفيلا. ضغطت الجرس، وبعد لحظات، فتحت لها سيدة بابتسامة ترحيب دافئة. أهلًا يا آنسة، اتفضلي. بخطوات ثابتة، دخلت مي الفيلا، تحمل في عينيها تساؤلات لا تنتهي. اللقاء الأول جلست مي على الأريكة في الصالون الواسع، يحيط بها أثاث فخم، وبعض الأنتيكات. صور زوجته وابنته لا تخلو من مكان. البيت منظم بشكل كبير. لفت نظرها مكتبة ضخمة تضم مجموعة كبيرة من الكتب. دققت بكل تفاصيل المنزل، لكنها شعرت أنه منزل ينقصه الحياة. المال لا يعطي السعادة، هكذا قالت لنفسها. صحيح أنه يوفر الراحة، لكنه بالفعل لا يعطي السعادة. حينما نفقد من نحب يصبح ذلك المال بلا قيمة، وسيلة يتمناها الفقير، ويعرف قيمتها الغني، وسيلة قد تقتل صاحبها بالملل. دخلت سيدة لتقطع حبل أفكارها، لتضع أمامها كوبًا من العصير. اتفضلي. مى تنتبه إليها: شكرًا، (تتحدث إليها في قلق) هو مستر يوسف هيتأخر؟ لا، حالًا هينزل. (في تردد) ممكن أقولك على حاجة؟ أكيد. لو اتعصب عليكي في الكلام، أو لا مؤاخذة لو قابلك وحش، ما تزعليش منه. ده ابن حلال وطيب والله. حاضر، عارفة من قبل ما أجى. في تردد: اسمي سيدة. (تتوقف قليلاً) ممكن أقولك على حاجة تانية؟ مى تنتبه إليها:
تم نسخ الرابط