حنين بقلم عاطف عبد الدايم

المحتويات
اقترب اتوبيس المدرسة من منزل حنين ..
كانت حنين قد إنتهت لتوها من يومها الدراسي وكان يوماً مميزاً فقد حصلت اليوم على درجات امتحانها فى مادة العلوم وكانت الأولى على فصلها .. أهدتها معلمتها قطعة كبيرة من الشيكولاتة بسبب تفوقها هذا .. لم تفكر حنين رغم حبها للشيكولاتة ان تأكلها ولكنها قررت الاحتفاظ بها لجدتها .. كانت حنين التى لم يتجاوز عمرها العاشرة متعلقة بجدتها لابيها التى تعيش معهم بشكل كبير .. وكانت بسبب انشغال والدها ووالدتها فى العمل تقضى فترات طويلة من الوقت فى غرفة جدتها .. تستمع الى حكايات جدتها وذكرياتها وتحكى هى بدورها كل ما حدث لها مع اصدقائها وزملاءها فى المدرسة الى جدتها ..
كانت جدة حنين هى أيضاً تعتمد على حنين فى كل شئ .. فهى التى تذكرها بأدويتها وتضع قائمة لمواعيد تلك الأدوية على هاتفها لتذكرها بها .. وكانت تتابع معها التلفزيون والاخبار وتشرح لها ما يستعصى عليها فهمه خصوصاً الوسائل التكنولوجية لهذا العصر .. فعندما أهداها ابنها هاتف جديد لم تكن تستطيع التعامل معه فى البداية .. ولكن حنين كانت تقوم بتعليمها كيف تتعامل معه حتى انها قامت بإنشاء صفحة لها على الفيس بوك وعلمتها كيف تكتب بعض الأشياء عليها .. ضحكت وقتها جدتها عندما رأت تلك الصفحة ونظرت الى حنين بحنان مختلط بضحكاتها
_ طيب ودى هأعمل بيها ايه بس يا حنين ؟
_ هتكلمى منها الناس يا تيتا وتتعرفى على ناس وتصاحبى ناس من مصر ومن
بره مصر
ضحكت جدتها لحماس صغيرتها
_ انا هاعمل كل ده ؟ ده انا مبخرجش من البيت
توقف اتوبيس المدرسة امام منزل حنين التى نزلت منه سريعاً وهى تلوح مودعة أصدقائها داخل الاتوبيس
قبل أن تنطلق مسرعة الى داخل المنزل ..
دخلت الى الاسانسير وصعدت الى الطابق الثالث حيث تسكن .. خرجت من الاسانسير وهى تتحسس حقيبتها التى تحملها على ظهرها وكأنها تطمئن على وجود لوح الشيكولاتة معها ثم انطلقت الى باب الشقة تدق الجرس بلهفة .. فتحت لها والدتها ( سمية ) الباب فدخلت حنين مندفعة بحماسها المعتاد الى داخل الشقة وهى تفتح حقيبتها وتخرج لوح الشيكولاتة وهى تشير لسمية به
_ بصي يا ماما ميس هناء ادتني ايه النهاردة .. طلعت الأولى على الفصل فى العلوم
ابتسمت سمية بهدوء .. كان يبدو عليها أن أمراً مقلقاً حدث ولكنها لا تريد ان تخبر حنين بمجرد وصولها
_ تمام .. ادخلى بقى غيرى لبس المدرسة ده
_ لا انا هادخل الاول لتيتا عشان افرحها وهاديلها الشيكولاتة دى .. هى بتحبها أوى
قالتها وكادت ان تنطلق الى غرفة جدتها لولا صوت سمية الذى استوقفتها وهى تتكلم بارتباك
_ تيتا مش موجودة فى اوضتها
توقف حنين وهى تنظر لأمها بدهشة
_ مش موجودة فى أوضتها ؟.. ليه راحت فين ؟
تتغير ملامح سمية ويزيد توترها وهى تحاول ان تخبر حنين التي وقفت مترقبة ما ستقوله والدتها لها
_ تيتا تعبت شوية .. ونقلناها المستشفى
كانت كلمات سمية المفاجئة صادمة لحنين .. جعلتها تقف متصلبة دون رد وتسقط لوح الشيكولاتة من يدها رغماً عنها
++++++
فى المساء .. فى منزل حنين جلس أشرف والدها الى مائدة السفرة وأمامه اطباق الطعام منتظراً ان تنضم له سمية التي بعد تحضيرها لطعام العشاء دخلت الى غرفة حنين لتحاول اقناعها ان تأتى لتناول الطعام معهما .. لم تخرج حنين من غرفتها منذ ان عادت من المدرسة وسمعت خبر نقل جدتها الى المستشفى ..
كان أشرف يجلس امام اطباق الطعام واجماُ .. ينظر امامه بنظرة ثابتة خالية من اى تعبير بدا وهو يجلس هكذا وكأنه تمثال حجري لا حياة به .. لم ينسي يوماً وهو الرجل الذى تجاوز الأربعين بسنوات قليلة كيف عانت أمه معه منذ طفولته بعد أن مات والده وهو في فى الثامنة من عمره .. جاهدت حتي لا تشعره بمشاعر اليتم التي يشعر بها من هم فى نفس ظروفه تلك .. رغم دخلهما القليل الذى اعتمد على معاش والده فقط الا انها لم ترفض له طلب يطلبه ابداً ..
كانت له دائماً الام والأب معاً وساندته حتي أنهي دراسته الجامعية فى كلية التجارة والتحق بالعمل فى أحد البنوك .. حتى عندما خطط للزواج من سمية استطاعت هى ببعض مدخراتها القليلة وبعض من مصاغها الذى كانت تحتفظ به ان تساعده على اتمام زواجه ..
قطع افكاره صوت سمية التي خرجت من غرفة حنين واتجهت لتجلس على مقعدها أمامه وهى تتكلم بهدوء
_ مش راضيه تاكل
نظر الى سمية وهو يشعر بالقلق على ابنته
_ لسه بتعيط ؟
ردت بهدوءها المعتاد
_ لا بطلت عياط .. بس بتقول ملهاش نفس للأكل .. اكلتها ساندوتش بالعافيه
_ طب وبعدين . اذا كانت عاملة كل ده عشان عارفه بس انها دخلت المستشفى
أومال هتعمل ايه لما تعرف اللى احنا مخبينه عليها ؟
نظرت اليه سمية وهى تتكلم بجدية
_ ما انا قولتلك نقولها الموضوع كله مرة واحدة وخلاص
رد عليها بإرتباك وتلعثم
_ مكانش ينفع .. كان هيبقى الموضوع صعب عليها .. وكمان كان فى حاجات كتير
لازم تترتب الأول قبل ما نقولها
ردت بلهجة حاسمة لتنهى هذا النقاش
_ خلاص يبقى نستحمل .. هى فترة وهتمر وكل حاجة هترجع لحالها
قالت جملتها وبدأت فى تناول الطعام بهدوء شديد وهى متعمدة الا تنظر تجاه أشرف الذى كان كما توقعت يثبت عينيه عليها وهو يحسدها بداخله على قدرتها على هذا الثبات رغم صعوبة الموقف .. لكنه كان يعرف سمية جيداً .. عندما تريد شئ فهى تضع له كل المبررات الممكنة ولا تترك ثغرة لأى اعتراض من جانبه .. كان يعرف انها تشعر الأن بنظراته لها التى لا تراها ولذلك تعمدت عدم النظر اليه .. لكنه لم يستطيع ان يتوقف عن النظر اليها .. كما لم يستطيع أن يوقف عقله الثائر بداخله عن ان تتخطفه الافكار السوداء لما هو أت .. وكيف سيخبر حنين بما حدث .. وما هو رد فعلها فى هذا الوقت على ما سيخبرها به .. كان يخاف على حنين ويشفق عليها ولا يريد لها أن تتأذى .. ولكنه لم يكن يملك خياراً أخر ..
رفعت سمية عينيها ونظرت له وهو مازال مثبتاً نظره عليها وهو يفكر وخرجت من فمها الكلمات هادئة كعادتها
_ ما أكلتش ليه ؟
سؤالها المفاجئ وهدوءها المستفز كان مربكاً له .. أمسك ملعقته وكأنه جندي تلقى الأمر بأن يمسك سلاحه فى نوبة حراسته
_ هأكل أهو
بدأ فى تناول طعامه وهو يثبت عينيه على طبقه متجنباً هو تلك المرة النظر الى زوجته .. كان يعرفها جيداً عندما تنهى نقاشاً بشكل حاسم ويريد هو انا يزيد فى هذا النقاش ان الامور تتطور بينهما لشجار .. وهو لم يكن يريد هذا الشجار خاصة الأن .
++++++
فى غرفة حنين .. كانت حنين تنام على فراشها وهى تضع لوح الشيكولاتة التي كانت تمنى نفسها ان يكون هديتها الى جدتها بجانبها على الوسادة والدموع تنساب من عينيها بحزن .. لم تكن تتخيل انها تبيت ليلتها تلك وجدتها غير موجودة فى المنزل ..
لم تكن حنين تذهب الى فراشها يوماً لتنام قبل أن تمر على غرفة جدتها أولاً لتقبلها وتستمتع بمداعبتها المحبة لشعرها وبعدها تتوجه الى غرفتها سعيدة مغمورة بكل هذه الطاقة من الحب التي تحملها جدتها فى قلبها لها .. الان هى تنام على فراشها حزينة وجدتها تنام على فراش المرض داخل المستشفى ..
لا تعرف ما هو هذا المرض اللعين الذى استطاع هزيمة جدتها القوية وأجبرها على دخول المستشفى .. لابد انه مرض قوى للغاية .. فجدتها التى تعرفها لا تستسلم بسهولة .. ولكنها الأن مريضة ووحيدة داخل تلك المستشفى التي لا تعرف مكانها بالتحديد ..
حاولت مع والدها ووالدتها ان يسمحا لها بالذهاب لزيارة جدتها ولكنهما اخبراها ان الزيارة ممنوعة فى تلك الفترة وان عليها ان تنتظر عدة ايام أخرى حتى يسمح الاطباء بالزيارة .. لم تعد تملك فى ذلك الوقت الا الدعاء لها ان تشفى سريعاً لتعود الى المنزل أو ان يسمح الاطباء سريعاً لها بالزيارة حتى تستطيع رؤيتها ..
كانت تعرف ان جدتها تجاوزت السبعين من عمرها ولكنها كانت دائماً قوية فى اكثر فترات ضعفها ..
مازالت تتذكر عندما كانت جدتها التي كانت قعيدة على كرسى متحرك تحاول بكرسيها ان تتجاوز الحاجز الصغير بين صالة المنزل والشرفة .. كان هذا الحاجز الصغير يمنعها بكرسيها المتحرك ان تدخل الى الشرفة وكأنه سداً منيعاً يأبى بعناد شديد أن يحقق رغبتها فى العبور الى
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة