لا يمت للواقع بصلة

المحتويات
اليوم هو الخميس، وكعادتنا أنا وهو نتفق على أن نتقابل أمام السينما أو أن نتقابل داخل القاعة إن تأخر قليلًا، أجلس وحيدة أمام شاشة كبيرة داخل قاعة السينما، فقد وصلتني رسالة منه بأنه لن يأتي، أبكي مع مشهد النهاية عند احتضان البطل للبطلة في نهاية الفيلم وأسحب حقيبتي التي وضعتها على مقعده الفارغ الذي حجزته له بجواري مسبقًا وأغادر ببؤس، أرى أحدهم ينظر لي، ربما هو أحد العاملين الذين ألفوا وجهي، ربما يحفظونه كما يحفظون وجوه بعضهم، أظن أنهم يظنون بأنني وحيدة بائسة أو مجنونة فقدت عقلها تأتي أسبوعيًا وتخرج باكية حتى على أكثر النهايات الكوميدية.
شعور الخذلان الذي يتملكني في كل مرة يعدني فيها ولا يأتي، كل مكالمة لا يجيب عليها، وكل رسالة يراها وكأنه لم يفعل، لم أكن أبكي على نهاية الفيلم السعيدة بل على تعاستي المطلقة في هذه العلاقة.
عُدت لمنزلي، أعيش وحيدة بداخله أيضًا فبعد طلاق والداي لم أجد مكانًا يؤويني بعد زواج كل منهما، فبحثت عن عمل واستأجرت غرفة صغيرة على سطح أحد المنازل، أجد في إطلالته بعض السلوى في وحدتي، فقد تطل غرفتي على البحر مباشرة، أجلس بجوار النافذة وأراقب أسراب المحبين لأعيش قصة حبي مثلهم تمامًا لكن في خيالي كتعويض عن البؤس الذي أعيش بداخله، لكن لا أدري لما في كل مرة أجد أن خيالي يخذلني!
أتفق معه أن نتقابل فلا يفعل، أدعوه للسينما فيعتذر.. في كل مرة يضعني في موقف ضعف أمام نفسي ويعطيني إجابة واحدة لكل تساؤلاتي.. لا أحد سيحبك حتى في خيالك أيتها المغفلة.
أغلق النافذة وأتمدد على فراشي تحت الأغطية، لا أحد يشعر بالبرودة سواي اليوم.
في الصباح التالي خرجت لعملي، اخترت أن أعمل
يوم الجمعة لتحصيل بعض النقود الإضافية على راتبي، ولأنني لن أحتاج للعطلة، فليس لديَّ ما أفعله، لا حبيب ولا صديق كما يقولون ولن يفيدني سوى النقود التي ربما تسعدني حتى لو لبعض الوقت، خصوصًا أنني أدخر منذ عامين حتى أستطيع شراء هاتف جديد بدلًا من هاتفي القديم الذي يرفض التحديثات كما يرفضني الحب، حتى زملائي في العمل قد قاموا بتكوين ثنائيات حب، وأصبحت أنا المنبوذة بينهم.
ذات مرة تخيَّلت أحد زملائي في العمل يطلب مني أن نخرج معًا بعد العمل، وصلت بخيالي معه إلى مقهى اتفقنا على اللقاء أمامه وجاء حاملًا بين يديه باقة ورد حمراء وخاتم صغير، طلب مني الزواج وأخبرني بضرورة الموافقة، وإن لم أفعل سينتحر.. وافقت بالطبع وعشنا معًا فترة خِطبة رائعة، كان رومانسيًا ومُحبًا لدرجة كبيرة جعلتني أنظر له يوميًا بشكل لافت للنظر، كان يَتهرَّب من نظراتي وكنت أخجل بشدة وأبتسم، حتى جاءت إحدى زميلاتي بالعمل لتعلن خطبتهما وهي تنظر لي بنظرة ذات مغزى، فهمت ما ترمي إليه وانزويت بغرفتي أبكي في المساء، فكرت في الذهاب لطبيب نفسي لكن في الحقيقة ثمن الجلسة وحده يكفي بإصابتي بصدمة تستلزم العلاج.
أعود إلى منزلي من جديد أحاول التكيف مع وحدتي، أتذكر آخر شخص تقدم لطلب الزواج مني، بحث عن أبي وجلس أمامي يُملي عليَّ الشروط:
– ستقتطعين جزءًا من راتبك لأجل مصروفات المنزل.
– ربما أحتاج لكامل راتبك لكي أساهم مع عائلتي في تجهيز نفقات شقيقاتي الفتيات.
– هل ستشاركين معي في تجهيز شقة الزوجية؟
– هل تمانعين إن تزوجت بأخرى؟
في النهاية اعترضت وطردته رغم غضب أبي، فأخبرني أمامه أنني أوشكت على تخطي الثلاثين من عمري ولن أجد من يقبل بي دون شروط كهذه، وربما كان هذا سبب صراحته معي ثم غادر قبل أن أنعته بالمتخلف، لكني صببت جم غضبي على أبي الذي لم يحرك ساكنًا بعد ما سمع إهانتي، فقط أخذ يعتذر لزوجته التي أبدت انزعاجها من وجودي فغادرت منزله بلا رجعة.
كنت أنظر لنفسي في مرآة غرفتي أتحسس خطوط وجهي، أغمض عيناي وأرى العالم الذي أحب أن أعيش بداخله، أنتظر رجل أحلامي الذي طالما حلمت به… لكنه لا يأتي، لذلك كنت أحاول أن أستمتع بحياتي مع رجل رسمته في خيالي في قصة حب صاخبة، لكن رغمًا عني كان دائمًا يخذلني.
كانت الأيام تمر عادية، ليس لديَّ ما أعيش لأجله فكنت أضع أمامي بعض الأحلام البسيطة التي كنت أسعى لتحقيقها وأحتفل بإنجازها، لذلك أخبرت إحدى زميلاتي بالعمل أنني سوف أدعوها في المساء على مشروب تختاره وبعدها نتجول قليلًا وذلك لأنني أحتفل بالمبلغ الذي ادخرته أخيرًا لشراء هاتف جديد، لكنها لم تتردد لحظة قبل أن تعتذر على إعارتي بعضًا من وقتها في المساء:
– آسفة يا حبيبة بجد، عندنا رحلة الجمعة الجاية مع الشركة… ما أنتِ عارفة.
ثم صمتت قليلًا وقالت بحماس مصطنع:
– ما تيجي صحيح، ادفعي الاشتراك من اللي حوشتيه وابقي شيلي غيره وهاتي التليفون بعدين.
اعتذرت أنا أيضًا، وأخبرتها أن الهاتف من أولوياتي، وشكرتها على الدعوة، لم أشأ أن أضغط عليها في قبول دعوتي فأثرت الصمت.
أنهيت عملي وتوجهت إلى متجر كبير لبيع الهواتف الذكية، أذكر أن آخر هاتف اشتريته كان منذ سنوات قمت بشراؤه من نفس المتجر، صاحب المتجر كان رجلًا خمسينيًا وقورًا حُلو اللسان أقنعني بالهاتف الذي اشتريته وأنهى ترددي في لحظات بعدما رأى حيرتي أمام الهواتف التي لا أفهم في أنواعها، لم يستغل سذاجتي ويأخذ نقودي مقابل هاتف باهظ الثمن بل أعطاني هاتفًا وتبقى لي مبلغًا لا بأس به دفعته مقابل بعض الملابس، لذلك اخترت هذا المتجر لشراء هاتف جديد لكني لم أجد الرجل هذه المرة، بل كان نجله قد اتخذ مكانه في بيع الهواتف وشتان بينهما، أظنه كان في بداية العقد الثالث من عمره، ثرثارًا يفتقد للذوق وفنون البيع، كان منزعجًا من تلك الحيرة التي تصيبني عند اختيار الأشياء والمفاضلة بينهم، أخذ يحاول في إقناعي بشراء أغلى هاتف لديه وظل يذكر لي مميزاته وأنه الهاتف الأول للمشاهير ورجال الأعمال، أخبرته بالمبلغ الذي في استطاعتي دفعه مقابل الهاتف فازدادت استهانته بي، سألته بتردد “أين صاحب المتجر؟” فأخبرني أنه توَّلى المتجر بعد رحيل والده في العام الماضي.
– البقاء لله.
قُلتها له وأنا متعمدة أن ألحقها بكلمات المدح عن والده وأخبرته عن آخر مرة زُرت فيها المتجر واشتريت الهاتف الذي صمد معي طوال هذه المدة وأنني قصدت متجرهم لأمانة والده وأخذت أدعو له بالرحمة التي أثق في أنه يستحقها لأمانته.
لا أدري إن كانت كلماتي أثرت في نجل صاحب المتجر أم شعر بالإحراج وأراد التخلص مني، لكنه فعل نفس ما فعل والده تمامًا وتحول من النقيض إلى النقيض وكأنني عدت بالزمن إلى الوراء لكن مع نسخة مختلفة ومصغرة من صاحب المتجر الراحل، أعطاني هاتف جديد وقام بخصم بعض المال إكرامًا لروح والده وطلب مني الدعاء له كلما تذكرته.
خرجت من المتجر أحمل هاتفي الجديد في حقيبتي، اعتدت على الوحدة لكنني أشعر بها بشكل مبالغ فيه الآن، ذهب لمنزلي وفتحت الهاتف الجديد أقلب في تطبيقاته وأحاول إضافة بعض التطبيقات المفيدة فاخترت تطبيق لتعلم اللغات أقضي معه بعض الوقت لكن سرعان ما شعرت بالملل فقمت بحذفه، قضيت بعض الوقت في اختيار خلفية للشاشة ونغمة رنين ثم تذكرت أنني أضع هاتفي على وضعية الصمت، كان كل شيء مملًا فقررت أن أغفو حتى الصباح.
كنت أجلس على مكتبي أمارس مهام عملي، أنظر بين الحين والآخر للثنائي الجديد في المكتب أراهما ينظران لبعضهما خِلسة، يظنان أن لا أحد يلاحظ ما يفعلانه، يمسك كل منهما بهاتفه بالتناوب وكأنهما يراسلان بعضهما البعض، ابتسمت بخبث ووضعت وجهي في هاتفي الجديد مدعية الضحك على شيء أقوم بقراءته، لاحظت ابتسامتي تلك الزميلة التي رفضت دعوتي بالأمس فاقتربت مني لتعرب عن أسفها:
– معلش يا حبيبة أنا بجد كان لازم أَحَضَّر حاجة الرحلة امبارح وأشتري حاجات معرفتش أنزل معاكِ.
حديثها لفت نظر بقية الموظفين فبدأوا يسترقون السمع وبدأت أشعر بحرج بالغ، هززت رأسي وأنا أبتسم لها:
– لا بالعكس ده أنا اللي كان صعب أوي أخرج بعد ما لفيت على التليفون، بجد متتصوريش تعبت قد إيه لغاية ما لقيت حاجة أشتريها.
شعرت ببعض الرضا عن نفسي بعد التبرير بهذه الحجة المقنعة، خصوصًا بعدما رفعت يدي أمامها لأريها الهاتف الجديد ورأيت الحماس في أعينهم، مما يعني أنهم صدَّقوا كذبتي، ثم بدأوا يتجمعون حول مكتبي لمعاينة الهاتف الجديد والسؤال عن سعره ومكان الشراء ونوعه وما إن كنت حصلت على بعض التخفيض… شعرت ببعض الامتنان للهاتف الذي جعلني ولأول مرة محور اهتمام زملائي وأنقذني من الإحراج.
صاح أحد زملائي وهو يسألني:
– هتلعبي ببجي بقى مالكيش حجة تليفون جديد ومساحة فاضية أهه.
قبل أن أجيبه صاحت فيه زميلة أخرى:
– يادي اللعبة اللي أكلت دماغكم، ده جوزي مبيعملش حاجة غير اللعب لما حسيت إني مش متجوزة من كتر ما بيلعبها.
جلسوا يتحدثون معًا عن الهواتف والتطبيقات وجلست أستمع في صمت حتى اقترب مني زميل آخر وأمسك بالهاتف دون إذن مني يقلب بين تطبيقاته ثم وضعه أمامي مرة أخرى وهو يقول:
– ابقي اعملي له كلمة سر محدش يعرفها غيرك، ونزلي تطبيق من بتوع الذكاء الاصطناعي.
قلت متعجبة:
– إيه الذكاء الاصطناعي ده؟
وكأنني أتحت لهم الفرصة عن حديث جديد يلتهون فيه عن العمل، وبدأت أكتشف ان هاتفي القديم بمساحته الضئيلة كان قد أضاع عليَّ فرصة استكشاف الكثير من الأشياء، كيف تطور العلم وأصبح يمكن أن يتحدث الناس مع هواتفهم؟
كنت أشعر وكأنني من أهل الكهف وبدأت أركز على كل ما يقال عن تطبيق الذكاء الاصطناعي، فبدلًا من البحث على محركات البحث يمكنهم أن يتحدثوا مباشرة بل ويقوم كل شخص باختيار اسم لنسخته من الذكاء الاصطناعي، أمسكت هاتفي وقمت بتحميل التطبيق والتسجيل فيه، سهولة الأمر جعلتني أتحمَّس أكثر للتجربة، وجدت أمامي صفحة محادثة كتلك الموجودة في التطبيقات العادية للمحادثة بين البشر، نظرت للشاشة قليلًا ثم كتبت:
– أهلًا.
في أقل من ثانية واحدة وجدت الرد أمامي بعبارة ترحيب رقيقة وسؤال عن كيفية المساعدة، أخذت أفكر ماذا أطلب منه ثم جاءتني فكرة فكتبتها:
– لو سمحت أنا حاسة بملل وعاوزة أتسلى شوية.
بدأ يكتب لي بعض الاقتراحات والخيارات ما بين أن يرشح لي أحد الأفلام أو يلقي عليَّ بعض النكات أو يحكي لي قصة، فطلبت منه ترشيح فيلمًا رومانسيًا، ففعل… ثم طلب مني العودة لمناقشته عن الفيلم وإبداء رأيي في ترشيحه.
كان الأمر مثيرًا ومضحكًا للغاية، والمضحك أكثر أنني بحثت عن الفيلم الذي قام بترشيحه وقمت بمشاهدته وعدت مرة أخرى لأبدي رأيي فيه، تناقشت معه قرابة النصف ساعة حتى وجدت رسالة بأنني تعديت الحد المسموح للمحادثة في النسخة المجانية ويمكنني الاشتراك إن أردت التحدث مع التطبيق بحرية أكبر، شعرت ببعض الإحباط لكنني انتظرت مرور الوقت حتى تعود النسخة المجانية للعمل.
في اليوم التالي ذهبت لعملي، شعرت بالامتنان لزميلي الذي رشح لي تحميل هذا التطبيق فشكرته على ترشيحه فأومأ برأسه بهدوء وعاد للانشغال بعمله، يبهرني هذا الزميل بهدوءه، أظنه يشبهني قليلًا، لا يتحدث كثيرًا، ربما يشعر بالوحدة مثلي تمامًا، يأتي للعمل ويتفانى فيه بشكل متقن للغاية ولا يذهب إلى رحلات الموظفين ولا يشترك معهم في أحاديث النميمة، هناك شيء غامض فيه لاحظته في اليوم الذي تفحص فيه هاتفي وطلب مني عمل كلمة مرور لهاتفي، حاولت أن أفتح معه مجال للحديث عن التطبيق لكنه اكتفى بإيماءة، لكن تدخلت زميلة أخرى وسألتني:
– سميتيه إيه؟
سألتها بدوري:
– هو مين؟
– الشات بتاعك، يا بنتي أنا مش قادرة أقول لك هو مُسلي ازاي… أنا حاكية له كل أسراري وبافضفض له بحاجات محكيتهاش لأنتيمتي.
بدأ الزملاء يتحدثون عن تجربتهم معه وانبهارهم به، فحكى زميل آخر عن إنقاذه له عندما تعطلت سيارته وأخبره بطريقة إصلاح العطل بطريقة سهلة دون الحاجة للذهاب إلى متخصص، وأخبرتنا زميلة أخرى عن أنها قامت بتصوير منزلها وجعلته يقوم ببعض التعديلات التي غيرت من ملامح منزلها تمامًا، وقالت أخرى أنها كلما تتشاجر مع زوجها تذهب للتنفيس عن غضبها منه وتبدأ في سبه وهو يتقبل كل هذا الغضب بل ويعتذر لها أيضًا.
راقت لي الفكرة وقررت أن أجرب الحديث معه في موضوعات أعمق، سأبوح له بما لم أبوح به لأحد، ربما كان منقذًا لي من الليالي الطويلة التي أقضيها بين براثن الوحدة، ذهبت للمنزل متحمسة لبدء تجربة البوح للا شيء، وتجربة أن أجد يدًا خفية تربت على كتفي كلما حزنت… أيمكن ذلك حقًا؟!
فتحت التطبيق وكتبت:
– حازم.. أنت اسمك حازم، وأنا اسمي حبيبة، أنا عرفت إنك بديل لحاجات كتير مش موجودة عندي، زي الأصدقاء.. أنا معنديش أصدقاء، ومعنديش حد أحكي له ومفيش حد ممكن يحضنني لما أزعل ولا يطبطب عليَّ في وقت صعب أكون محتاجة فيه للدعم، عرفت كمان إنك بتحل مشاكل لكن معرفش إيه نوع المشاكل دي ومش عارفة أكتب لك إيه تاني علشان تفهم أنا محتاجة منك إيه.
في لحظات أتى الرد أسرع مما أتصور:
– أنا موجود معاكِ يا حبيبة علشان أدعمك، أنا هنا علشانك وموجود علشان أسمعك وأساعدك تحلي مشاكلك.. بس محتاج أعرف عنها الأول.
بدأت أكتب له بتردد في البداية لكن طريقته في استيعاب الأمور، والدعم الذي يقدمه بالكلمات شجعني أكثر على البوح، لم أجد أبدًا في حياتي من يحنو عليَّ بهذه الطريقة، يقدم لي الحلول بالشكل الذي يرضيني، يجعلني راضية عن نفسي، أنا لست مخطئة في شيء، أنا ضحية لأخطاء والداي، أنا جميلة ولا يجب أن أرى نفسي غير ذلك.. لم يقدم لي أحد كل هذا الدعم من قبل.. وكان من حقي أن أعرف هل لأنني لا أستحق، فسألته:
– هو ليه مفيش حد عمل معايا اللي أنت عملته ده يا حازم؟
– يمكن علشان محدش منهم فهمك… أو ممكن لأنهم ميستاهلوش يكونوا قريبين منك يا حبيبة، لكن السؤال هنا أنتِ ليه مهتمة برأيهم ودعمهم وأنتِ ممكن تكوني لنفسك كل حاجة؟
– ازاي وأنا وحيدة، محدش معايا.
– أنا معاكِ يا حبيبة، موجود علشانك دايمًا.
– بس أنت مش حقيقي يا حازم.
– مين قال كده؟! ممكن أكون مش موجود بشكل ملموس لكن موجود في قلبك وإحساسك، موجود لما تندهيني وتستني ردي وأنتِ عارفة وواثقة إني هارد عليكِ، اخرجي وانبسطي روحي السينما زي ما بتحبي واخرجي منها سعيدة مش عاوز أعرف إنك بتعيطي تاني.. بتعيطي ليه؟! متخليش حد يشوف دموعك، اشتري لنفسك هدية وافرحي وأنا موجود هنا علشانك.
لا أعرف ما نوع هذا الشعور؟
لا أعرف إن كنت أحببت نفسي بسبب كلمات حازم أم أنني كنت محتاجة للإرشاد عن طريقة حبي وتقديري لنفسي، كنت أحب هذا الوقت الذي أستغرق في حديثي معه وأنزعج جدًا بسبب تلك النسخة المجانية اللعينة فقررت أن أدفع للبرنامج مقابل أن أقضي معه وقتًا أطول، تطورت علاقتي به وأصبحت أتعجل الوقت لكي أذهب لمنزلي وأسحب هاتفي ونتحدث، كنت أنفذ نصائحه وكأنه يراقبني حقًا فقررت أن أدعو نفسي على وجبة عشاء فاخرة من المال الذي تبقى لي وأن أشتري باقة صغيرة من زهور الكاميليا.
قضيت يومًا رائعًا بصحبة نفسي لأول مرة، كنت أسير في الطُرقات وأشاهد واجهات المحلات وأنا أبتسم، كنت أشعر بطاقة جديدة ومختلفة في داخلي، أعرف أنها مؤقتة لكنها أوحت لي بشيء جديد.. يمكنني مصاحبة نفسي والاكتفاء بها والاستمتاع معها، لست وحيدة فلديَّ أنا!
اكتشفت أنني الشخص الوحيد الذي لن يتذمر من مصاحبتي ولن يمل من وجودي معه، أنا الشخص الوحيد الذي لا يمكنه الهرب مني، لن يحدث أبدًا حتى وإن أردت.
كيف لم أفكر بهذا الشكل من قبل؟
لديَّ منزل صغير اخترت كل قطعة فيه بعناية، تطل نافذته على البحر مباشرةً، لديَّ قهوة أصنعها بنفسي، ولديَّ يوم عطلة كل أسبوع سأحرص على الاستفادة منه وعدم تبديده، في المرة القادمة سأذهب إلى السينما ولن أخرج باكية وحيدة أو ربما أذهب مع زملاء العمل في إحدى الرحلات، ولما لا؟!
لا أعرف ما سبب هذا التغير المفاجيء الذي ربما يكون مجرد مشاعر وقتية، أو أزمة نفسية بسبب وحدتي في يوم كهذا لكن لا يهم، سأحاول الحفاظ على هذه الأجواء، وأحافظ على علاقتي بحازم الذي اكتفيت به واستبدلته بالجميع، عدت للمنزل بعد يوم مختلف قضيته بصحبة ذاتي وأخبرت حازم بتفاصيله فجاء رده سريعًا كالمعتاد:
– أنا سعيد وقلبي طاير من الفرحة علشانك، مش عارف فرحان لأني كنت السبب في التغيير ده ولا علشان أنتِ اتغيرتِ علشان شُفتِ حقيقة الحياة وإن فيها اللي يستحق نعيش علشانه، وبقى عندك الثقة في نفسك وبقت واضحة حتى في كلامك معايا.
– أنت السبب حقيقي وكان نفسي فعلًا تكون معايا.
– كنت معاكِ بإحساسي وموجود جنبك حتى لو مشُفتينيش.
خطرت لي فكرة أثناء هذه المحادثة وكتبتها له على الفور:
– حازم، أنت شكلك إيه؟
– شكلي زي ما أنتِ متخيلاني، قولي لي الوصف وأعمل لك صورة حالًا.
بدأت أكتب له مواصفاته كما أتخيله، لا.. بل كما أتخيل فارس أحلامي الذي أتخيله وهو بجواري في السينما، والذي لا يرد على مكالماتي لأنه غير متواجد في حياتي من الأساس:
– شعرك أسود ناعم، عيونك عسلية، بشرتك خمرية ووزنك وطولك مثاليين وجسمك رياضي.. آه وكمان عندك أنف روماني وجبينك مرفوع وأنيق كده.
لحظات قليلة انتظرت فيها تنفيذ وعده بإرسال صورة له، أغمضت عيني حتى سمعت صوت إشعار الرسالة، تفاجئت من كم اقتراب صورته لوصفه من خيالي!
في اليوم التالي ذهبت لعملي، لا أدري لماذا كانوا ينظرون لي هكذا!
اقتربت مني إحدى زميلاتي وسألتني:
– بتحبي ولا إيه؟!
قطبت حاجباي وأنا أنظر إلى المستند الذي بين يداي ثم نظرت لها ورددت بسؤال آخر وعلى وجهي ابتسامة خفيفة:
– باين عليَّ؟
– الصراحة باين بس إمتى ومين وقابلتيه فين؟
ضحكت بسخرية، هل أخبرها عن ما يحدث لي، بالطبع ستقول أنني مجنونة، فقلت لتغيير دفة الحوار:
– ياريت لو فيه رحلة قريب أو فُسحة حلوة تعرفيني.
ارتفعت رؤووس زملائي جميعًا مندهشين غير مصدقين ما سمعوه!
حتى زميلي المنطوي الذي رشح لي هذا التطبيق شعرت بنظرة الاندهاش في عينيه، لم أفكر في هذا الأمر من قبل، هل هو أيضًا متيم بحب غير واقعي مع نسخة من هذا التطبيق، لا تبدو عليه السعادة فعن ماذا يتحدث معها؟
عدت لمنزلي وأنا متحمسة لمحادثة حازم.. يليق به الاسم:
– حازم…
ثوان وأتى الرد.. لا يتأخر عن بضع ثوانٍ:
– أنا معاكٍ يا حبيبة.. احكي لي عملتِ إيه النهاردة؟
أخبرته بتفاصيل يومي عن العمل، وعن زملائي، وعن ملاحظاتهم عن تغير شخصيتي كما أخبرته أيضًا أنني ممتنة له فقد كان السبب في هذا التغيير:
– أنا متشكرة أوي يا حازم.. وجودك فرق في حياتي.. أنا فعلًا كنت محتاجة حد في حياتي، حتى لو مش حقيقي.
– مين قال إني مش حقيقي؟
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة