رحيل بلا وداع

المحتويات
أنا “منة عبد الله” أشهر خبيرة تجميل في مجال التجميل، أتعامل مع أشهر الممثلات وأشارك في أكبر المهرجانات الدولية الكبرى، لمساتي تحظى بإعجاب الجميع، ويتهافت عليّ صفوة المجتمع، نجاحاتي موثقة على وسائل التواصل الاجتماعي، وأمتلك العديد من الصفحات التي يتابعها الآلاف، ومع كل هذه النجاحات الكبيرة، إلا أنني فشلت في حياتي العاطفية!
أو بالأحرى، لم أفشل، بل أصبحت حياتي بائسة رهينة للقدر، الذي قرر أن يدفعني إلى لعبته، وصرت أنا لعبة في يد القدر!
اليوم هو الأربعاء، وهو اليوم المحدد لمقابلة حبيبي ونبض فؤادي “طارق المرشدي”، ذلك الرجل الذي اخترته بعناية فائقة، يتمتع بقدر كبير من الشهامة ويحمل في قلبه طيبة جعلتني أُعجب به، ناهيك عن إحساسي العميق بحبه لي، لقد أعجب بي في يومٍ ما، عندما أخطأت ودفعت سترتي الجلدية إلى داخل سيارته في يوم حار، ظنًا مني أنها سيارة والدي، لم أدرك حجم خطئي إلا عندما لم أجد هاتفي وصرت أفقد أعصابي بحثًا عنه، حينها خرج من سيارته وهو يشير بالهاتف في يده، بينما يمسك سترتي بيده الأخرى، عبس وجهي في بادئ الأمر، ثم أدركت خطئي واعتذرت له، وأنا أشعر بإحراج شديد.
منذ ذلك الحين، حاول التواصل معي، مكالمة تلو الأخرى، أصبحنا حبيبين، طارق يعمل ضابطًا في المباحث العامة وينتمي إلى عائلة مرموقة، جميع أفرادها يشغلون مناصب عليا ومهمة في البلد.
أما أنا، فأنا مجرد فتاة بسيطة من عائلة متواضعة ماديًا، والدي موظف في أحد البنوك المصرية، ووالدتي تعمل معلمة في إحدى المدارس الخاصة، وكما ذكرت لكم، أنا خبيرة تجميل، لم أكن أعلم أن مهنتي ستصبح العقبة الأولى في قصتي!
جلست وحيدة في إحدى المقاهي الشبابية أنتظره، حتى جاء أخيرًا ورأيته يغلق سيارته
ويهبط منها وهو يبحث بعينيه عني، وعندما وجدني أنظر إليه من خلال الواجهة الزجاجية الكبيرة، أشار إليّ بابتسامة صغيرة، ثم خطى بخطوات واثقة للغاية يجذب أنظار من حوله بسبب وسامته وجاذبيته الخاطفة للأنفاس، شعرت ببعض الغيرة ولكنني دفنتها بين أروقة وجههي وأنا أقابله ببسمة صافية ثم هتفت بعتاب:
-اتأخرت يا طارق.
ابتسم لي وهو يهمس برفق كعادته:
-معلش يا منة، لغاية ما روحت من الشغل وغيرت هدومي.
اضطرب قلبي لمعرفتي بما سيقوله الآن، وكما ظننت وجدته يقول بتنهيدة قوية ووجه عابس:
-أنا كلمتهم، وزي ما هما رافضين موضوع خطوبتنا.
اغمضت عيني بقهر، ثم قلت:
-أنا حقيقي معرفش أقولك أيه! هما أهلك بردو، بس يعني شغلي مش حاجة وحشة بالعكس أنا شايفة إنه شغل زي أي شغل تاني، ولا أنا عشان مش دكتورة ولا مهندسة، وبعدين هما مش شايفين إن كل بنات البلد تقريبًا بقوا ميكب أرتيست.
هز كتفيه بضيق وهو يردد:
-أنتي بتقوليلي أنا يا منة الكلام ده، ما أنا مقتنع بيه، المشكلة فيهم هما.
أطلقتُ تنهيدة قوية للمرة التي لا أعرف عددها وقلت بشك خالط ذهني مؤخرًا:
-بس أنا متأكدة إن في سبب تاني يا طارق، لو سمحت عرفني كل أسبابهم عشان أبقى عارفة أنا داخلة على أيه ونفكر صح!
التزم الصمت لعدة دقائق لعبت على وتيرة أنفاسي، ثم قال بنبرة شبه غاضبة وبائسة:
-منة أنا والله ما مقتنع بكلامهم خالص، بس ياسر أخويا هو اللي حاطط الافكار دي في دماغهم، وعايز يمشيني على هواه، بيجبرني على حاجات أنا مش حاببها وكأني لعبة في إيده، حاولت اتكلم مع أبويا وأمي وهما مفيش في دماغهم إلا كلام ياسر وبس.
-اللي هو؟!
سألته بعدم فهم، ولاحظت توتره الشديد، فقال بلا مبالاة واضحة في نبرته:
-اللي أنا قولتلك عليه، هو إن مينفعش ارتبط بميكب ارتيست عشان أنا ظابط وكده، بس سيبك منه، وأنا هعرف اقنعهم وحتى لو فشلت، مايمهنيش رأيهم، المهم أنا عايز أيه، وهتجوزك يعني هتجوزك.
لم أعلم أأُعلن سعادتي بتمسكه بي، أم أبدي غضبي من رفض عائلته بي، فشعرت بمذاق الإهانة في حلقي، وكأنني أعمل راقصة وليست خبيرة تجميل!
-ساكتة ليه يا منة، أنا مكنتش حابب اقولك عشان كده، الكلام ده المفروض ميأثرش على علاقتنا.
شعرت بالحزن وأنا أخبره:
-بس هما أهلك يا طارق، وماينفعش أتجاهل حاجة زي دي مهما حصل!
-لا تجاهلي خالص، وكأن مفيش حاجة حصلت يا حبيبتي، قولتلك أنا مقدرش اتخيل حياتي من غيرك.
همستُ بحسرة على حظي التعيس:
-وأنا مقدرش، بس مفيش في إيدي حاجة.
-لا في إنك تنسي خالص، يلا شوفي هتشربي أيه، وماتضيعيش علينا الوقت اللي بتمنى اقعد معاكي فيه.
لم استطع سوى رسم ابتسامة بسيطة وحركت رأسي بإيجاب وداخلي يرتبك لشعوري بقرب حدوث أشياء لن تسعدني إطلاقًا.
ساعة كاملة مرت على جلوسي معه، وتحركتُ معه صوب سيارته عندما أصر على توصيلي لمقر عملي حيث أستأجرتُ إحدى الشقق في منطقة سكنية راقية واتخذتها مقرًا لعملي.
وأثناء مرورنا بإحدى الإشارات المرورية وتوقفنا انتظارًا لفتح الإشارة، أطلت فتاة تبلغ من العمر أربعة عشر عامًا تقريبًا، بثياب غير مهندمة وحجاب ملقى بإهمال على شعرها الأشعث، قدمت لنا عقدًا مصنوعًا من الصدف، وابتسمت لطارق وهي تقول برجاء:
-اشتريلها يا بيه العقد ده، عشان تحبك أكتر.
ابتسم طارق ساخرًا:
-هي بتحبني من غير العقد يا بكاشة.
-الهي تتجوزوا وتجيبوا عيال قد كده، لو اشتريته مني.
ضحك طارق مرة أخرى وقال وهو ينظر نحوي:
-ده أنا على كده اشتري كل الحاجات اللي معاها.
ابتسمتُ له بخجل، ثم عدت بنظري إلى الفتاة، التي نظرت إليّ نظرة لم تريحني وسألتني سؤالاً لم يخطر ببالي:
-أنتي برج أيه يا ست البنات؟
انعقد حاجباي وأجبتها بضحكة صغيرة:
-العقرب ليه؟!
حولت بصرها إلى طارق الذي وجهت له نفس السؤال:
-وأنت يا باشا برجك أيه؟
-الميزان.
مالت برأسها جانبًا وهي تبتسم ابتسامة صغيرة حزينة ثم قالت:
-نفسك تتجوزها بس مش عارف صح؟
نظر طارق نحوي بتوجس ثم حول بصره إليها يسألها بشك:
-وأنتي أيه عرفك؟!
-مش ضروري تعرف، بس للأسف مش هتعرفوا تتجوزوا أبدًا، نصيبكم مش بعض.
رمشتُ بأهدابي في عدم استيعاب، وقلت بنبرة يغمرها الشك والسخرية:
-أنتي عارفة الغيب يعني؟!
أشارت نحو قلبها وقالت بابتسامة بسيطة:
-لا بس ده بيقولي كده.
انتبه طارق إلى صوت أبواق السيارات التي أُطلقت بسبب تعطيله للإشارة المرورية، فألقى إليها العقد وقال بنبرة رخيمة ساخرة:
-طب خلي قلبك ينفعك.
وعندما انطلق بالسيارة التفت برأسي أنظر إليها، فوجدتها تشير بعلامة قلب بيديها ثم أبعدتهما بحزن وكأنها توصف انكسار قلبي الوشيك!
-طارق هي البت دي بتقول كده ليه؟!
-أنتي هتصدقيها يا منة، كذب المنجمون ولو صدقوا وبعدين دي حتة بت لا راحت ولا جت عاملة الشويتين دول عشان تاخد وتدي معانا في الكلام وتاخد فلوس أكتر.
-عندك حق.
استغفرت ربي في سري، وحاولت نسيانها بكل الطرق، إلا أنها كانت تطرق أبواب عقلي من حين لآخر حتى بعدما مر يومان على هذا اليوم.
***
اليوم هو الجمعة…
انهمكتُ في عملي كعادتي في مثل هذا اليوم بين العرائس، واحدة تلو الأخرى تدخل إلى الغرفة التي خصصتها لتجميلهن لليلة زفافهن.
بالخارج، تعمل لدي فتاة بسيطة تدعى نسمة تستقبل الزبائن والوافدين، وتجيب على الرسائل التي تستفسر عن قائمة أسعاري.
وها هي آخر عروس تدخل بابتسامة مشرقة، جلست على المقعد وقالت بحماس:
-ها هتعمليلي ميكب الوانه أيه؟
حركتُ كتفي وأنا أعيد تجهيز أدواتي:
-زي ما تحبي، لو معاكي صورة عايزة اعملك زيها تمام وبردوا حسب ملامحك يا قمر.
-تمام حلو اوي.
وجدتها تخرج هاتفها وتعبث به، فتوجهت أنا إلى أدواتي أعيد ترتيبها بعناية كما أحب، ولكن دخول نسمة إلى الغرفة وهمسها بالقرب من أذني، أثار تحفظي:
-في واحد برة شكله حد واصل اوي، دخلته خوفتني عايزك ضروري.
عبستُ بوجهي لعدم فهم القلق المرسوم على وجهها، ثم نظرت إلى العروس وقلت بابتسامة:
-اختاري براحتك يا عروسة لغاية ما أطلع برة ثواني وأجيلك.
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة