الموت .. فى الساعه الخامسة

المحتويات
الموت .. فى الساعه الخامسة…..تأليف عاطف عبدالدايم
أتت صوت دقات الساعة بشكل متتالى قوى ذا رنين مزعج لتعلن بدقاتها الخمس ان الساعة أصبحت الخامسة تماماً .. كانت تلك الساعة القديمة ذات البندول القوى والتى تقبع وسط صالة منزلى الممتلئ بالاثاث القديم هى اقدم ما أملكه من اثاث والداي اللذان تركا الحياة منذ سنوات قليلة في سنتين متتاليتين ولم يتركا لى الا تلك الشقة لأعيش بها وحيدة ..
مع أخر دقة من دقات تلك الساعة الخمس دار مفتاحى في كالون الشقة لأدخل لها .. تعودت كل يوم أن أعود في نفس الوقت .. تعودت أن اصعد درجات السلم سريعاً قبل انتهاء تلك الدقات وكأن تلك الساعة تعلن عن وجوب وصولى الى المنزل هاربة من العالم الذى يتحرك خارج حوائط شقتى الاربعة
دخلت شقتى واغلقت الباب وانا التقط انفاسى وكأن وحشاً كان يطاردنى .. الأن فقط وأنا داخل المنزل أشعر وأننى أفلت منه ..
العالم بالخارج يفزعنى .. كل ما يحدث بالخارج مخيف بشكل بشع .. اغمضت عينى وانا استند الى باب الشقة و اضع يدى على صدرى الذى يعلو مع دقات قلبى المتسارعة وكأننى ارجوه أن يهدأ وأطمئنه اننا وصلنا انا وهو الى المنزل أخيراً ..
تحركت الى اقرب مقعد للباب وجلست أستريح .. قلبى الخائف هدأ الأن قليلاً ..
مازلت أشعر بصدرى يؤلمنى من كثرة الركض .. أو من شدة الخوف لا أعلم تحديداً ..
لقد تجاوز عمرى الأربعين بعدة أشهر .. العمر أيضاً كالعالم الخارجى شئ مخيف .. عندما يتجاوز عمرك الأربعين وأنت لم تحقق أى شئ مما تريد .. تشعر أن عمرك هذا وكأنه مر فجاة .. تلك السنوات لن تستطيع ان تعيدها مرة أخرى
..
أتذكر صوت أمى وأنا صغيرة وهى تقول لى ( سلمى عيشى حياتك .. اليوم اللى بيضيع من عمرك مبيتعوضش ) ..
لكن في ذلك الوقت لم أكن أفهم ما تقول .. لم أكن وانا طفلة أعيى ان العمر كباقى الأشياء من الممكن أن يضيع .. كان العالم أمامى واسع ولم تكن عيناى تستطيع ان ترى أخره ..
فنحن عندما كنا صغار كانت أمنيتنا الكبرى ان يمر العمر سريعاً لنكبر .. نعتقد خطأ ان ما يفصل بيننا وبين السعادة فقط السنين القليلة التى نعيشها ونحن صغار وأننا عندما نكبر سنجد الجنة بإنتظارنا .. وسنملك كل ما لم نكن نملكه من قبل ..
لكن عندما نكبر نعرف ان ما كنا نتخليه ليس أكثر من وهم صورته لنا عقولنا الصغيرة .. عقولنا التى لم تكن في ذلك الوقت تحمل ذكريات سيئة .. والتى لم تكن تستوعب ان الواقع الذى ينتظرنا قد يكون أسوء بكثير من القصص المرعبة التى كانوا يقصوها علينا .. نكتشف أن ( أمنا الغولة ) كانت أطيب بكثير ممن سنقابلهم في حياتنا .
( واحد. اثنين . تلاته . اربعة . خمسة . ستة )
ست دقات متتالية من ساعتى القديمة .. الساعة الأن تشير الى السادسة ..
غيرت ملابسى ووقفت في المطبخ لأعد طعام الغداء لنفسي .. أعددت بعض ( البامية ) اللذيذة التى تعلمت وصفتها من أمى .. كانت أمى ربة منزل رائعة وطباخة ماهرة لا يضاهيها أحد .. وكانت تعتبر أن أسرار تلك الأكلات التى تجيدها هو إرثها الثمين لى .. فهى ستجعلنى أجيد الطبخ مثلها .. مثلما جعلتها جدتى طباخة ماهرة هى أيضاً..
ولكن أمى كانت تعد البامية في اليوم السابق لأكلنا لها طبقاً للمقولة المصرية الشهيرة ( نطبخ البامية النهاردة وناكلها بكرة ) .. كانت دائماً تخبرنى ان بعض الأكلات عندما تبيت في تلاجتنا ليوم أو اثنين يكون مذاقها أكثر روعة ..
تلك المقولة من المؤكد انها لا تنطبق على النساء .. لا أعتقد ان النساء التى تستمر بدون زواج سيكونوا أكثر روعة عندما يتزوجن ..
جلست أتناول طعامى وأنا اتذكر أحلامى المهدرة ..
كانت لدى الكثير من الأحلام وأنا صغيرة .. كنت أتمنى أن أصبح طبيبة .. ولكن أنتهى بى الأمر أخصائية إجتماعية في مدرسة بنات .. كنت أتمنى أن يكون لى ثلاثة أطفال وأنتقل الى منزل واسع كبير .. لكنى لم أخرج أبداً من منزل أسرتى ولم أتزوج وبالتالى لم يصبح لدى أطفال .. كل الأحلام تبخرت الواحد تلو الأخر .. هل أنا ضعيفة الى هذه الدرجة .. حتى لا أستطيع أن أحقق حلماً واحداً مما حلمت به ؟ .. هل هذا ضعف أم حظ سيئ ؟ .. قد يفقد الانسان حلماً من احلامه في رحلته .. ولكن أن يفقد جميع أحلامه فهذا شئ مخزى ..
انتهيت من طعامى ووقفت امام المرأة أتأمل وجهى .. ملامحى الجديدة تقول اننى تقدمت في العمر .. أشعر وكأن عمرى تعدى المائة عام .. لم أكن في أسوء كوابيسى أتوقع أن أصل الى ذلك العمر وأنا وحيدة في شقة أسرتى .. لم أعد أملك أياً من أحلامى التى حلمت بها ولا أجروء حتى وانا في هذا العمر على استبدالها بأحلاماً جديدة ..
كل يوم أحاول اقناع نفسى اننى بخير .. ولكننى لست كذلك .. لم أعد حتى قادرة على الضحك .. كنت أضحك منذ سنوات حتى لا أبكى .. أدعى وأمثل تلك الضحكات حتى أشعر أننى مازالت على قيد الحياة وأستطيع الضحك كالأخرين .. ولكنى الأن حتى لم أعد استطيع أن أفعل ذلك .. يبدو أننا عندما نكبر لا نجيد التمثيل على أنفسنا ..
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة