أسيرة قبيلته وقلبه!

أسيرة قبيلته وقلبه!
أسيرة قبيلته وقلبه!
كانت “زينة” في رحلة إلى احدى المدن الصحراوية مع الفوج السياحي الذي لم يكن لها فيه اصدقاء، فهي حين قررت السفر معهم لم تكن غايتها المتعة التي افتقدتها منذ القدم، تحديدًا منذ فقدانها لوالدها الذي رحل ورحلت معه كل معاني الحياة لتبقى هي على قيد الألم الذي تتجرعه وحيدة بائسة!   كانت غايتها من هذه الرحلة هي الهرب، الهرب من ذلك اللعين “رضا” الذي لا يسأم من ملاحقتها، خاصةً بعد سقوط ظهرها الوحيد في هذه الحياة وبقاءها وحيدة مُعراه للذئاب البشرية امثاله.   ولكنها للاسف للتو لاحظت مجيء بعض الرجال خلفهم، رغم محاولتها المستميتة للتخفي عن اعينهم، فخمنت أنهم حتمًا رجال ذلك الحقير، جلست في الزاوية تفكر ماذا عساها تفعل؟! كيف هي النجاة؟ استجاب القدر لمناجاتها فأرسل لها صورة من صور النجاة متمثلة في عربة كانت تقل بعض الاخشاب من المكان الذي كانوا يقطنون به في الصحراء، وكان يبدو من لهجتهم أنهم من البدو، ورغم أنها لم تكن تعرف وجهتهم إلا أنها قررت أن تستقل تلك السيارة النقل وتختبئ وسط حمولتها دون أن ينتبه لها اي شخص.   بعد فترة توقفت السيارة في مكانٍ كانت تجهل ماهيته، وحين رفعت رأسها وتفحصته وجدت نفسها امام بيت كبير مكون من عدة ادوار، فكرت قليلًا فقط وانقادت خلف عشوائية تفكيرها المترنح في هذه اللحظات، فترجلت من السيارة مسرعة قبل أن يعود سائقها ويراها، وحين سمعت صوت الرجل يقترب سارعت بالدخول لذلك البيت الذي كانت ابوابه مفتوحة لحسن حظها، لا تدري أنها دخلت عرين الاسود بقدميها!   كان الصمت يسيطر على الاجواء بالداخل، والضجيج يأتي من الجزء الخلفي للبيت الذي كان اكبر مما تتوقع ويبدو أنه منقسم لقسمين، سمعت صوت ربما يقترب من المكان
الذي تقف فيه لذا تحركت على الفور نحو غرفة وجدتها امامها، اغلقت الباب خلفها كما كان مغلقًا، ووجدت على الفراش يقبع فستان قرمزي اللون ساحر للعين، استطاعت التخميين ببساطة أنه لمناسبة هامة.. وعلى الجانب الآخر كان يوجد ” برقع”.. ولكن ليس هذا ما شغل بالها، بل كانت تفكر في فكرة طرحت نفسها بقوة على زمام عقلها؛ وهي أن ترتدي ذلك الفستان والبرقع على وجهها وتغادر بهم بسلام وهكذا لن يتعرف عليها اي شخص ويطالبها بتفسيرات هي لا تمتلكها من الاساس!   سرعان ما جعلت تلك الفكرة جزءًا واقعيًا ملموسًا وأنهت ارتدائها لذلك الفستان والبرقع، واوشكت على المغادرة حين سمعت صوت انثوي يقترب من باب الغرفة فركضت لتختبئ خلف الجدار وهي تحمد الله أن الغرفة كبيرة وإلا كان كُشف امرها حتمًا.. ثم أرهفت السمع حين صدح الصوت الانثوي الذي خمنت أنه ينتمي لفتاة شابة: -وش هالهدوم اللي جابتها مهرة؟! خمنت أنها تقصد ملابسها الشخصية التي تركت حين أبدلتها بالفستان والتي كانت عبارة عن بنطال وتيشرت اسود وقبعة ونظارة شمس، ثم انتبهت للاخرى حين تنهدت وهي تهمس لنفسها على مضض: -ما يهِم، المهم أفلِت مِن هالخطوبة بأي سِيرة. فاتسعت عيناها بصدمة من فحوى تفكيرها، فلم تتكن تتخيل أن تجرؤ فتاة بدوية على الهرب ليلة خطبتها!   انتهت تلك الفتاة من ارتداء الملابس ثم غادرت الغرفة على الفور، تنهدت زينة والارتياح يغمرها اخيرًا.. ثم بعد قليل خرجت بتردد من خلف الحائط وتوجهت نحو الشرفة التي كانت تطل على خارج سور المنزل؛ لتلقي نظرة على الوضع بالخارج، في البداية كان كل شيء كما هو عليه، ولكن بعد دقائق معدودة رأت تلك الفتاة التي ترتدي ملابسها واشيائها تخرج مخفية وجهها، وحين كانت تسير جوار سيارة سوداء
كانت بالقرب من المنزل هب الرجال لاختطافها بلحظات وأغلقوا السيارة ثم انطلقوا فورًا مغادرين..   شهقت زينة متراجعة بفزع وهي تردد لنفسها: -يا نهار اسود، يا نهار اسود، رجالة رضا الكلب خطفوا البت! وراحت تدلك جبهتها وكأنها تحاول انعاش عجلة التفكير التي تجمدت داخل عقلها، ومن ثم غمغمت بقلق: -هعمل إيه دلوقتي، لو شافوني مش هيحلوني لحد ما يلاقوها. ثم ضربت فخذيها بحسرة تندب حظها العثر الذي لم ينصفها يومًا: -يا حظك النحس يا زينة، يا حظك الاسود.   ظلت قابعة في الغرفة تنتظر الفرصة حتى تسنح لها بالمغادرة في ظل توافد بعض الرجال الذين كانوا يقومون بنقل اشياء امام وداخل المنزل..   بعد قليل من الانتظار الذي كان ينهش قلبها، انتفضت بهلع حين فُتح باب الغرفة فجأة ووجدت أمامها شاب في أواخر العشرينات تقريبًا، يرتدي جلباب اسود إلتف حول جسده العريض الذي تناسب مع الرجولة الصارخة التي تنضح من قسمات وجهه القمحية الوسيمة بعينين سوداوتين مُكحلتين بالفطرة.. هيئته الآسرة هزت شيء مجهول داخلها رغم ظنونها المبطنة بصلابتها المُحكمة امام الجنس الآخر…!   وهو الآخر بادلها التفحص، بدءًا من خصلاتها بُنية اللون كالقهوة المحترقة، نزولًا بالرقة الانثوية المُهلكة في وجهٍ كان كالبدر في تمامه، متناسبًا تمامًا مع الجلباب القرمزي المُطرز المخصص للعروس الذي كان ينساب على جسدها بفيض من الفخامة..   وجواره فتاة تماثلها في العمر، ترتدي جلباب مزخرف من اللون الازرق، أشارت نحو زينة بيدها مرددة بانفعال: -شفت يا راكان؟ هربت، رويدة هربت بمساعدة صديقتها دي. أشار لها “راكان” بيده كإشارة بالصمت، ثم تقدم ببطء مُقلق نحو “زينة” التي تراجعت للخلف تلقائيًا، فصدح صوته الرخيم متسائلًا: -فين رويدة؟ هزت كتفاها في قلة حيلة واجابت: -رويدة مين؟ انا ماعرفهاش. رفع حاجباه في استهجان معقبًا: -ما تِعرفيهاش كيف؟ وش كنتي تِسوّي فِي غُرفتها؟ فكررت بأمل كان كشمعة خافتة في نبرتها المختنقة: -صدقني ماكنتش اعرف انها اوضتها اصلًا. استرسل بتقرير واقعي تجانس مع سخرية ساطعة: -وفستان خطوبتها؟ كمان ما كنتِ تدرِي إنه لها؟ هزت رأسها بالنفي ولم تنبث ببنت شفة مع ادراكها الكلي أنه لن يُتخذ على محمل الصدق، وأكد لها ذلك حين ضيق عيناه لتصبح بؤرة رادعة من الغضب الاسود، وقال بخشونة شرسة: – الكذب ما راح ينجيكي… ليش جيتي هنا ووين رويدة؟ قولي الحقيقة عشان تمشي للمكان اللي جيتي منه؟ تهدل كتفاها في قلة حيلة وهي تضيف بنفاذ صبر: -أقنعك ازاي اني فعلًا ماعرفهاش وماعرفش اي حاجة وجيت هنا بالصدفة؟ فشدد على كلمتها مرددًا بحدة وصوت أجش: -صدفة! وش هالصدفة اللي تخليكي تِدخلي دار السواركة يوم الخطوبة، وتلبسي فستان العروس بعد؟! أخبرته بمزيج من الصدق والتردد: -انا كنت بستخبى من ناس عايزين يأذوني فدخلت هنا صدفة وغيرت هدومي بالفستان اللي لاقيته عشان اعرف اهرب منهم. ولكن قبل أن تفلح حجتها في اختراق حواجز عقله الصلد كانت الفتاة الاخرى تصيح بحدة وكأنها تتعمد حشرها في الزاوية: -كذّابة! لا تِصدقها يا راكان، أنا سمعتهم بنفسي وهُمّا يِتفقوا، وكانت بتساعد رويدة تهرب عشان تِعرّف تتجوز الشاب اللي تحبّه! أمرها راكان بنبرة مقتضبة منغلقة: -استني انتي يا مهرة، اطلعي برا الحين. خرجت مهرة من الغرفة على مضض متمنية نجاح خطتها، فيما اتسعت حدقتا زينة والادراك يضرب عقلها كسوط ضاري!
تم نسخ الرابط