فخ نرجس

فخ نرجس
فخ نرجس
كل شيء يسير بوتيرة مدهشة، لم يكن يعاني من شيء في حياته يدعو إلى القلق.. كان مدلل والدته نرجس بعد أن توفى زوجها وقامت هي بتربيته وشقيقاته الثلاث، جعلت مقامه من مقام والده لديهن وأعطته الحرية الكاملة للتصرف في كل شيء ولديه من المال ما يكفيه ويكفي أسرته لسنوات طوال تحت تصرفه منذ أن بلغ الحادية والعشرين من عمره. فتى صغير أفسده الدلال أخبرته أمه أنه الآمر الناهي في حياة شقيقاته، يتحكم فيهن كيفما يشاء متى يخرجن ومتى يدرسن ومن يصاحبن، مسموح له بإهانتهن وضربهن على أتفه الأسباب بمباركة الأم، ورغم كل هذه المميزات التي يعطيها المجتمع لأي ذكر لم يكن راضيًا عن شيء، لا تعجبه حياته ولا منزله ولا هذا الحي الذي يسكن فيه، انتهت شقيقاته من تعليمهن لكنه مستمرًا في الرسوب بكل إخلاص. سامح.. سمية.. سماء.. سلمى، اختار لهم والدهم أسماءهم بحرف السين وكانت هذه نقطة الاتفاق الوحيدة بينهم أما بغير ذلك فلا يمكن أن يصدق أحد أنهم أشقاء، فكانت سمية ضعيفة الشخصية تنتابها نوبات قلق لا تفصح عنها أبدًا وتخشى والدتها وشقيقها حد الموت.. أما سماء فكانت تستسلم تمامًا لإرادة أمها وشقيقها لكنها تفعل ذلك دون أن تبدي أي ضعف بل على العكس تمامًا فكانت تنفذ كل ما يأمرونها به وكأنها تتفق معهما في الرأي، لذلك كانت مقربة كثيرًا من سامح مما جعل شقيقتها سمية تلجأ إليها عند الضرورة، أما الصغرى وهي سلمى فكانت أكثرهن تمردًا وأكثرهن تعرضًا للقسوة والضرب والإهانة من سامح ونرجس، وكان كل هذا العنف لا يزيدها إلا قوة وتشبثًا بعنادها. وكان للأم جانب آخر في التربية كان له أثرًا جليًا على أبنائها فقد كانت دائمة المقارنة..
تقارن بين أبنائها وبعضهم في كل شيء، وتقارن بينهم وبين أبناء الجيران والمعارف، لذلك فإن هناك نقصًا واضحًا على نفسية أبنائها وشعورًا بالنقص هيمن على شخصياتهم وخصوصًا سامح الذي رغم أنه كان طفلًا مدللًا له الكثير من الامتيازات إلا أن شخصية نرجس طغت على شخصيته فلا يرفض لها كلمة ويحاول إرضاءها بشتى الطرق حتى لو على حساب نفسه، وكانت نرجس تتخذ من المقارنات التي تعقدها سبيلًا إلى تحفيز أبنائها فيزيدون إصرارًا على النجاح لإرضاء والدتهم، لكنهم دائمًا لديهم هذا الشعور بعدم الاكتمال والرضا. لم يقبل سامح أن تعمل أيًا من شقيقاته بعد انتهاء الدراسة، فما فائدة العمل للفتيات وخروجهن من المنزل ولديهن ما يكفيهن من المال، لم تكن تلك هي قناعاته الحقيقية لكنه لم يكن راضيًا عن نفسه بشكل كاف يجعله يقبل أن تحقق إحدى شقيقاته أي نجاح بعد إنهاء دراستهن قبله، هذه هزيمة كبيرة لم يكن يستطيع تحملها لولا إصرار والدته على تعليمهن، ولم تكن تفوت فرصة على معايرته أمامهن بأنه الأكثر فشلًا رغم أنه لديه كل شيء لذلك فلن يكبد نفسه عناء التعرض إلى مقارنة جديدة وخسارة أخرى تضاف إلى قائمة هزائمه أمام الآخرون. لم تكن نرجس على دراية بأن سامح له جانب آخر خفي عنها لا تعرفه فقد كان صديقًا لأكثر شباب الحي شرًا وبلطجة ولولا خوف سامح من والدته لصار مثل صديقه سيد.. بلطجي مخضرم، لكن سامح اتخذ سيد صديقًا لمجرد الحماية، أو للتباهي أمام أصدقائه بأنه على مقربة من أكثر أهل المنطقة إجرامًا فلم يكن أحد يستطيع الاقتراب منه أو المساس به، رغم أنه كان في الحقيقة يخشى سيد كما يخشى نرجس تمامًا، لكنه في داخله كان
يكرهه ويحتقره، خصوصًا بعدما علم أن سيد حاول التقرب من شقيقته الصغرى سلمى، لكنه لم يواجه سيد بل توجه إلى سلمى وقام بضربها واتهامها بسوء السلوك، ولم يكن هذا التصرف نابعًا من رجولة لكنه علم أن سلمى قامت بتوبيخ سيد أمام المارة في حين أنه لم يحرك ساكنًا خوفًا منه ومن ردة فعله. كانت الأمور تسير كما هي، حتى أتى سيد ذات يوم طارقًا باب منزل نرجس طالبًا سلمى للزواج، فوجئت الأم بجرأة سيد على طلب كهذا لدرجة أنها تخيَّلت أن سلمى قد أعطته الأمل بالموافقة، أو أنها على علاقة عاطفية معه في الخفاء.. ثارت ثورتها وطردت سيد الذي هرول إلى صديقه يشكو له تصرفات والدته معاتبًا إياه على عدم سيطرته على “أهل بيته” كما أخبره مما جعل سامح يهرع إلى المنزل باحثًا عن سلمى كالوحش الذي يبحث عن فريسة يفرغ فيها جوعه وغضبه.. استقبلته نرجس ثائرة في وجهه ولأول مرة تنصر إحدى شقيقاته عليه وعلى رغبة يريدها، ليس لمصلحة شقيقته لكن لمصلحته في الأساس، وقفت أمامه تسأله وهي ثائرة: – أنت مصاحب سيد البلطجي، لدرجة إنك معشمه يتجوز أختك.. على آخر الزمن بنتي تتجوز بلطجي، عاوز تناسب بلطجي وتبقى خال ولاد البلطجي. لم يستطع أن يواري وجهه أمام نظرات سلمى الشامتة، فهي لم تَنْسَ ما فعله بها عندما علم بمغازلته لها، وهو الآن يحصد نتيجة أفعاله، فقد انتهزت سلمى فرصة غضب نرجس من سامح وحكت لها ما فعله معها بسبب هذا البلطجي بل والأكثر من ذلك فقد أخبرتها بنية أحد زملائها من أيام الكلية برغبته في التقدم إليها، رجلًا يافعًا يعمل محاسبًا بأحد البنوك، من عائلة مرموقة ومستوى اجتماعي جيد للغاية، ومع صدمة وجود سيد أمامها طالبًا إحدى بناتها للزواج وافقت على الفور دون مناقشة سلمى عن كيفية تواصلها مع زميلها وتلك الأسئلة العتيقة التي تعودت عليها مع أبنائها، وبعد أن قامت بتوبيخ سامح واتخذت عليه عهدًا بقطع علاقته مع سيد قامت بإخباره عن هشام الذي سيحضر لخطبة سلمى بصحبة والديه، مما أثار حفيظة سامح ضد والدته والشجار معها واتهامها بتجاهله، لكنها كانت بارعة في قلب الأمور لصالحها فنظرت لهما بعينين يملأهما بريق الغضب وقالت: – عاوزني أعمل لك اعتبار وأنت جايب لي واحد زي ده لغاية بيتي، اوعى تنسى إن طول ما أنا عايشة الكلمة هنا كلمتي والقرار في الآخر قراري. تمت خطبة سلمى إلى هشام رغم تحفظ سامح الذي انصاع لرغبة والدته في قطع علاقته بسيد، متحملًا سخافات سيد كلما رآه في الشارع، متنازلًا عن هيبته التي كان يستمدها بقربه منه. شيئًا فشيئًا بدأت علاقات سامح ونرجس تعود إلى سابق عهدها خصوصًا وأنه قد أنهى دراسته الجامعية وحصل على وظيفة بواسطة من هشام، وهذا ما جعل سامح يتقبل وجوده في حياتهم بعدما كان يحاول إقناع والدته بفسخ الخطبة فكيف للشقيقة الصغرى أن تتزوج قبل شقيقاتها الأكبر منها سنًا، لكن نرجس أصرت على إتمام الزيجة نظرًا لأن هشام لا يُعوض، ولم تفصح هذه المرة عن تلك المقارنة التي عقدتها بين سامح وهشام مما جعل في قلبها مرارة كبيرة فكم تمنت أن يكون سامح مثله ولو قليلًا، لكن قلبها لم يطاوعها عن الإفصاح فقد كانت المقارنة حقيقية هذه المرة. تمت زيجة هشام وسلمى في غضون أشهر قليلة من خطبتهما، وكانا على وفاق تام، اعتبرته سلمى عوضًا عن كل القسوة التي لاقتها من شقيقها ووالدتها، وكان لوجود هشام أثرًا إيجابيًا على سمية وسماء أيضًا، فقد استطاع إقناع نرجس بأن تسمح لسماء بالعمل، وكانت هذه هي رغبة سماء في الأصل لكنها لم تستطع أبدًا أن تتخطى سامح وتطلب من والدتها طلب كهذا وهي تعرف الرد مسبقًا، فلما تتخلى عن حلمها وهي ترى مدى قرب هشام من والدتها.. لما لا تستغل الفرصة!
تم نسخ الرابط