في قبضة الوهم

في قبضة الوهم
في قبضة الوهم
“قبل ثلاثة أشهر” استقبلت رقية آخر المعزين في وفاة والدها، رجل الأعمال السيد محمد المنصوري، أحد أعمدة تجارة الحديد والصلب في مصر، لقد ترك لها ثروة طائلة تقدر بالملايين، وأصولًا عقارية تمتد في معظم أنحاء مصر، فهي ابنته الوحيدة ووريثته المدللة، تلك التي عاش عمره كله حريصًا على تنشئتها في عز ورخاء، مغدقًا عليها بحبه ورعايته. كانت مدللة العائلة بأسرها، لا يجرؤ أحد على مخالفة رغبتها، إذ كان سخط والدها كفيلًا بردع أي اعتراض. مسحت دموعها المرتجفة وهي تغلق بيديها الواهنتين باب الفيلا الكبير، وكأنها تغلق وراءه فصلًا من حياتها، ثم جرت قدميها جراً نحو أقرب مقعد، وانهارت عليه كجسد فقد روحه، احتضنت نفسها بذراعيها، محاولةً أن تجد في دفء جسدها عزاءً عن الدفء الذي فقدته إلى الأبد، لقد غاب عنها الحصن الذي احتمت به طوال حياتها، ورحلت معه القوة التي كانت تستمدها من وجوده. كم كانت هشة وضعيفة رغم المظاهر التي توحي بالعكس! كانت نظرة واحدة من عينيه كفيلة بأن تبدد أي مخاوف في قلبها، أما الآن فقد أصبحت وحيدة، تواجه فيلا شاسعةً موحشًة، ودنيا أوسع وأكثر قسوة، بلا درع يحميها من غدر الأيام. انتبهت إلى وقع خطوات رجولية واثقة تتردد في أرجاء بهو الفيلا الواسع، فرفعت عينيها الدامعتين في بطء، لتلتقط ملامح زوجها، الدكتور فارس الدمنهوري، جراح القلب البارع، وهو يتقدم نحوها بثبات، تتجلى في قسماته تلك الصلابة المعتادة، وتطل من عينيه نظرة ثاقبة طالما استعصت عليها قراءتها، كانت نظراته تحمل دائمًا شيئًا غامضًا، عصيًا على التفسير، لكن وجوده في أحلك لحظات حياتها كان فارقًا لا يُستهان به. ربما لولا حضوره لكانت قد انهارت وسقطت فريسة سهلة للطامعين من حولها، وربما فشلت في إدارة
إرث والدها كما كان يتمنى، لكنها لم تعد تفكر في كل ذلك الآن، فهي لا تعرف سوى حقيقة واحدة؛ أن فارس يمثل حصنها المنيع، الذي ستلجأ إليه كما اعتادت دومًا. اقترب منها، وجذب مقعدًا صغيرًا، ثم جلس فوقه بوقاره المعتاد، متكئًا إلى مسند المقعد، وبذلته السوداء الرسمية تضفي عليه مهابة خاصة، مد يده إلى كفها المرتجف، يربت عليه بحنان، وكأنه يحاول تهدئة العاصفة التي اجتاحت كيانها في ليلة شتوية قارسة، ثم قال بصوت خفيض يكسوه العزاء: -البقاء لله يا حبيبتي، ربنا يرحمه. هزت رأسها بإيماءة ضعيفة، بينما انطلق صوتها المتهدج يعكس يأسها العميق: -يا رب يا فارس، بابي كان أجمل حد في الدنيا، كان أب جميل لا يمكن هعرف اعوضه. تنهد فارس بعمق، وهو يصغي إلى صوتها المتقطع من شدة البكاء، يراقب ارتجاف جسدها المرهق من الحزن الذي لم يبرحها منذ ثلاثة أيام، رغم انتهاء مراسم العزاء التي أصرت على إقامتها طيلة هذه المدة بحضور كامل لعائلة المنصوري. -والدك كان شخصية قوية وعظيمة ومش هتتكرر، بس اظن انه هيكون زعلان لو فضلتي كده، لازم تفوقي لنفسك ولمصلحتك. هزت رأسها رفضًا، وأجابت بنبرة يائسة، تفضح وهنها العميق: -بابا كان كده فعلاً، بس أنا مش كده، أنا مش هقدر اعمل أي حاجة. رفع حاجبيه في دهشة، واقترب منها قليلًا وهو يتساءل مستنكرًا: -يعني عادي عندك تسيبي حقك ومالك لباقي عيلتك ينهبوكي، هو انتي مش قولتي دايمًا إن والدك كان بيحذرك من اللي حواليكي؟ هو تحذيره ده مايمثلش أي حاجة ليكي وانتي في الظروف دي! أطلقت زفرة ساخنة محملة بأسى مرير، وهي تقول بضعف: -أنا مش فايقة لأي كلام من ده يا فارس، وعيلتي مش هيتكلموا معايا في أي حاجة دلوقتي ماتقلقش. ضحك فارس بسخرية واضحة،
ثم زاد من اقترابه، متحدثًا بنبرة مشحونة بالغيظ: -رقية فوقي، آدم ابن عمك داخلك دلوقتي عشان عايزك بخصوص الشغل، ولما سألته رفض يقولي حاجة وكأني عدو مش جوزك، أنا بلعت الإهانة دي وسكت عشان خاطرك، بس انتي عارفة كويس اوي إن لولاكي ولولا الظروف دي أنا مكنتش سكت له أبدًا!! مدت يدها الصغيرة تمسك كفه بين راحتيها، وكأنها تحاول امتصاص توتره، قائلة بصوت رقيق نسجت خيوطه من الحب: -معلش يا حبيبي حقك عليا، أنا هبقى اتكلم معاه…. لكنها لم تكمل جملتها، إذ قاطعها دخول آدم المنصوري، ابن عمها بجسده الرياضي الممشوق وطوله الفارع، يحمل من ملامح والدها الراحل ما يكفي لتذكيرها بألم الفقد في كل مرة تراه فيها، كيف لا، ووالدهما كانا توأمين متطابقين؟ -رقية عايزك لو سمحتي. قالها بلهجة آمرة، وهو يرمق فارس بنظرة متعالية، لم تخفِ ضيقه من وجوده، أما فارس فبادر إلى الابتعاد عنها قليلًا، واضعًا ساقًا فوق الأخرى، متعمدًا إظهار كبريائه واستفزاز ابن عمها. أجابت رقية بنبرة رقيقة متحفظة، وهي تنظر إليه باستفسار: -ايوه يا آدم؟ -على انفراد. ألقى كلماته بحدة واضحة، لكنه فوجئ بردها وهي تشبك أصابعها في يد زوجها، وتنظر إليه بتحد زائف تخفي خلفه ارتجافها الداخلي: -لو عايز تقول حاجة قولها قدام فارس. قبض آدم يده بانفعال، لكنه تمالك نفسه بصعوبة، ووجه حديثه إليها مباشرة، وهو يرفع بعض المستندات في يده: -عايزك تعمليلي توكيل عشان الشغل واقف، ولازم اكمل الشغل وصلاحياتي متدنيش الحق في كل المصانع والصفقا….. قبل أن يكمل حديثه، وقفت رقية أمامه، تواجهه بندية واضحة، ثم قالت ببرود أثار استغراب فارس، الذي رسم على شفتيه ابتسامة واثقة بينما هي تقول: -توكيل!! وأنا اعملك توكيل ليه ان شاء الله!! رفع آدم حاجبه ساخرًا، غير مصدق لتحولها المفاجئ من فتاة هشة إلى امرأة شرسة تبدي قوة غير معهودة فيها، ثم قال باستفزاز: -يا سلام ماتعمليش، انزلي انتي وتابعي الشغل في الشركة والمصانع ولا تزعلي نفسك، بس انتي هتفهمي يعني في الشغل؟ انتي ماتعرفيش أي حاجة ولا عمرك اشتغلتي، طول عمرك مهتمة بالاعمال الخيرية والشوبنج واصحابك في النادي! جذبت نفسًا عميقًا قبل أن ترد بنبرة صارمة: -عندك حق، أنا طول عمري ليدي وهفضل كده فعلاً، بس أنا عندي اللي يقدر يتابع شغلي ويقوم بيه على أكمل وجه وزي ما بابي كان عايش بالظبط. قهقه آدم بسخرية، وعقد ذراعيه أمام صدره متسائلًا بدهشة مصطنعة: -ويا ترى مين ده اللي يقدر يعمل كل ده يا رقية هانم؟! أشارت إلى فارس بفخر واضح، مما زاد من غيظ ابن عمها، لكنه أجبر نفسه على ضبط انفعالاته، بينما أردفت بثقة: -الدكتور فارس جوزي. ابتسم آدم بسخرية لاذعة، قائلاً باستهزاء: -جراح القلب هيشتغل في البيزنس؟! كادت أن ترد عليه بقوة، غير أن فارس أمسك بذراعها، ونهض قائلًا بنبرة خافتة، لكنها حملت استنكارًا قويًا: -جراح قلب يعني بعمل عمليات في عضو حساس جدًا مسئول عن أرواح الناس، مش هقدر اشوف البيزنس بتاع مراتي يا بشمهندس آدم!! وبعدين ده أقل واجب على فكرة لازم احميها من اللي عايزين ينبهوها وياكلوا حقها عيني عينك، الله يرحمه عمك كان دايمًا يحذرها من اللي حواليها. رمقه آدم بنظرة غامضة، ثم قال باستهجان: -هو انتي فهمتي التحذير ده عننا؟ عن عيلتك صح؟ طول عمرك غب…. لكنه بتر جملته، وزفر بضيق قبل أن يضيف بحدة: -عمومًا بشوقك يا رقية، انتي اللي اختارتي ماترجعيش تعيطي في الآخر. استدار ليغادر، غير أن رقية صاحت خلفه، بنبرة مجروحة تفضح احتقارها له: -انا كنت هعيط فعلاً لو سلمت دماغي لواحد جاي ياكل حقي ويضحك عليا عيني عينك في تالت يوم لعزا أبويا، ياللي معندكش دم. التفت إليها بنظرة غاضبة مفعمة بالغل، ثم غادر الفيلا، صافقًا الباب خلفه، محدثًا صوتًا مزعجًا، لكنه لم يكن بقدر الضجيج الذي أحدثه في صدرها، جلست منهارة على مقعدها، تحدق في الباب بحقد دفين، فقد أدركت الآن أن آدم لن يتوقف عن محاولاته لانتزاع إرثها. احتضنها فارس بقوة وهو يقول بنبرة متوعدة شرسة، يحاول بث الطمأنينة في قلبها: -ماتقلقيش يا روحي أنا مش هسيبك وهقف في وشهم كلهم عشان خاطرك، ولا تشيلي هم. *** مسحت رقية وجهها بعناية فائقة، تمرر يديها برقة على بشرتها، وكأنها تخشى أن تفسد نقاءها بعد أن وضعت مستحضرات العناية الباهظة التي تحرص دائمًا على استخدامها لتحافظ على رونقها المشرق، رغم أن قلبها لم يعد يعرف معنى النور منذ رحيل والدها، تأملت ملامحها في المرآة للحظات، ثم زفرت بضيق، شعرت أن مظهرها الخارجي لا يعكس أبدًا ما يموج داخلها من ظلام وكآبة. ارتدت ثيابها الرياضية السوداء، فهي لا تزال ملتزمة بالسواد حدادًا على والدها الذي غادر الدنيا منذ ثلاثة أشهر، تاركًا وراءه فراغًا هائلًا في روحها، رفعت يديها إلى شعرها الطويل، وعقصته بإحكام، إلا أن خصلة عنيدة تمردت فوق جبينها، فعدلتها بأصابعها في حركة آلية. أخيرًا قررت أن تخرج من قوقعتها، تنصاع لإلحاح صديقاتها اللواتي لم يمللن من دعوتها للانضمام إليهن في النادي، حيث تستعيد شغفها برياضتها المفضلة التنس، وفي ذات الوقت تحاول الترفيه عن نفسها التي سجنتها بين جدران الفيلا الحزينة. هبطت الدرج بخطوات ثقيلة، تحمل حقيبتها الرياضية، وعيناها تلتقطان مشهد “نرمين” في نهاية السلم، واقفة تنتظرها بابتسامة واسعة كعادتها، وكأنها تحاول أن تبث فيها بعضًا من الحياة التي خبت منذ رحيل والدها. هتفت نرمين بحب ودفء حقيقي: -والله الدنيا نورت يا ست الكل يا قمر. توقفت رقية أمامها، ارتسمت ابتسامة حزينة على شفتيها، قبل أن تقول بصوت مختنق: -الدنيا عمرها ما هتنور تاني بعد ما بابي راح يا نرمين. انعكست مشاعر الحزن على ملامح الخادمة الثلاثينية، تلك المرأة التي لم تكن مجرد خادمة في هذا المنزل، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من حياة رقية، مسؤولة عن تفاصيلها الصغيرة، زمت شفتيها ثم تحدثت بنبرة مفعمة بالعطف والرجاء: -ليه بس يا ست رقية، انتي عايزة الباشا يبقى زعلان منك ولا إيه، روقي كده وفوقي لحياتك ومصلحتك. ارتجفت شفتا رقية، قبل أن تجد نفسها تحتضن نرمين بعاطفة صادقة، مستشعرة ذلك الدفء الذي افتقدته بشدة: -أنا حقيقي مش عارفة كنت هعمل إيه لو انتي وفارس مكنتوش موجودين في حياتي. تنهدت نرمين بحزن وهي تربت على ظهرها بحنو، لكن نبرتها اكتسبت شيئًا من الغموض عندما قالت بنبرة متهدجة: -فوقي يا ست رقية عشان خاطري، وصحصحي كده، أنا ماحبش اشوفك ضعيفة أبدًا. ابتعدت عنها رقية ببطء، تتأملها بتعجب، قبل أن تقول بقلق واستنكار: -مالك يا نرمين؟ ما أنا زي الفل اهو، عشان يعني بعيط بس ده بيبقى غصب عني، انتي عارفة بابي كان بالنسبالي إيه! فتحت نرمين فمها كأنها على وشك البوح بشيء مهم، إلا أنها سرعان ما ابتلعت كلماتها عندما قُطع حديثهما بصوت خطوات أنثوية متغطرسة تطرق الأرض بإيقاع واثق. “ماهي” تلك المرأة التي يبدو أن نصف جمال العالم قد اجتمع فيها، تسير وكأنها ملكة متوجة، بشعرها الأشقر المنسدل على كتفيها، وقوامها الممشوق الذي لا يتناسب أبدًا مع امرأة في أواخر الخمسينات. دخلت الفيلا بعنجهيتها المعتادة، تحمل حقيبة فاخرة ذات علامة تجارية عالمية، تمسكها بطريقة معينة توحي بالرفاهية، وقفت في منتصف البهو، قبل أن تهتف بنبرة ناعمة متكلفة: -صباح الخير يا روكا. رفعت رقية عينيها إليها، أجبرتها على رسم ابتسامة باهتة وهي ترحب بها: -أهلاً يا ماهي صباح النور اتفضلي. مررت ماهي أصابعها على خصلات شعرها بإيماءة متعالية، قبل أن تجول بعينيها في أرجاء الفيلا وكأنها تقيمها، ثم قالت ببطء: -حبيبتي أنا مارضتيش اسيبك أبدًا بعد فارس كلمني وقالي لازم اجي اقعد معاكم واحاول اخرجك من اللي انتي فيه. -حبيبتي يا ماهي تسلميلي الفيلا هتنور بيكي وبوجودك. ردت عليها بابتسامة مجاملة قبل أن تميل برأسها قليلًا وتسألها: -انتي رايحة النادي ولا إيه؟! أحنت رقية رأسها بإيماءة، ثم قالت بإحراج: -اه بس انتي لو عايزاني معاكي، عادي ماروحش. لوحت لها ماهي بيدها بإشارة مستهجنة: -لا….لا روحي بالعكس أنا لسه هفضي الشنط واعمل كام حاجة تكوني رجعتي، يلا روحي عشان متتأخريش. اقتربت رقية منها، قبل أن تطبع قبلة خفيفة على الهواء قرب خدها، كما تحب ماهي دومًا، ثم التفتت نحو نرمين تودعها بإيماءة لطيفة، قبل أن تغادر. لكن نظرة نرمين المليئة بالشفقة بقيت معلقة على خطوات سيدتها الشابة حتى اختفت خلف باب الفيلا، لم تكد تستدير لتلحق بها، حتى انتفضت بفزع عندما انطلق صوت ماهي بنبرة حادة متسلطة: -انتي يا هانم ياللي سرحانة، أنا بكلمك. ابتلعت نرمين ريقها، ثم قالت بأدب وخضوع: -ايوه يا هانم معلش، تأمريني. رفعت ماهي رأسها إلى أعلى، نظراتها تتجول في سقف الفيلا قبل أن تسأل بتعالٍ واضح: -اوضتي دي؟ رفعت نرمين نظرها إلى حيث أشارت، لكنها سرعان ما أدركت مقصدها، فارتسمت الصدمة على وجهها عندما فهمت أن السيدة المتغطرسة تطلب غرفة السيد الراحل محمد المنصوري، ردت عليها بنفي قاطع، ونبرة حازمة لا تخلو من الاستياء: -لا طبعًا دي اوضة الباشا الله يرحمه. ضيقت ماهي عينيها، قبل أن ترفع حاجبها بدهشة مستنكرة: -انتي قولتي الله يرحمه! وأنا بحب اقعد في أكبر اوضة واظن إن دي أكبر اوضة! تجمدت أنفاس نرمين للحظة، ثم ردت بصوت خفيض، لكنها حاولت الحفاظ على هدوئها: -هي فعلا أكبر اوضة في الفيلا بس رقية هانم هتزعل من حاجة زي دي، دي محرجة على باقي الخدم يدخلوها يا هانم، وبعدين هي مجهزهالك اوضة كبيرة وهتعجبك جدًا تحبي تشوفيها. تأملت ماهي ملامحها للحظات، كأنها تقرر إن كانت ستجادلها أم لا، ثم زفرت بضيق، قبل أن تهتف بنبرة متعجرفة غير راضية تمامًا: -اوك تعالي وريهالي وقولي لباقي الخدم يجييوا الشنط وبراحة عليهم دول فيهم حاجات أغلى من حياتكم كلها. أومأت نرمين برأسها على مضض، وأسرعت تنفذ الأوامر، بينما قلبها يخبرها أن وجود هذه المرأة في الفيلا… لن يجلب إلا المشاكل! **** أنهت رقية تدريبها المرهق، وجلست إلى أقرب طاولة ملاصقة لملعب التنس، تلهث من التعب، تمسح بيدها الصغيرة حبيبات العرق المتصببة فوق جبينها، اليوم قست على نفسها كثيرًا، كأنها تحاول أن تفر من أحزانها بين ضربات المضرب وحركة قدميها فوق الأرضية الصلبة، لكن رغم ذلك، الألم القابع في صدرها لم يخف. أخرجت هاتفها بسرعة، تبحث عن رقمه، ثم ضغطت عليه بيد مرتجفة، “فارس”زوجها الذي باتت بالكاد تراه منذ أن منحتَه توكيلًا عامًا لإدارة الشركة والمصانع نيابة عنها، في البداية، بدا الأمر منطقيًا؛ فالأعباء ثقيلة والمسؤولية تحتاج إلى رجل قوي يواجهها، لكن غيابه المتكرر صار يؤرقها، تشعر أنها تحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى، تحتاج لوجوده، لصوته، لأي شيء يُطمئن قلبها وسط هذا الزخم من التغيرات والمخاوف، لكنه دائمًا مشغول، دائمًا يبرر انشغاله بضغط العمل المتزايد. ما زالت تنظر إلى شاشة هاتفها حين شعرت بشيء يوضع فوق الطاولة أمامها، رفعت عينيها سريعًا، لتجد آدم ابن عمها، يضع متعلقاته ويجلس بثقة في المقعد المقابل لها. رفع حاجبيه وهو يبتسم بمكر: -أخيرًا حضرتك خرجتي من القوقعة بتاعتك!! ضيقت رقية عينيها بتركيز، ثم رمقته بنظرة مشوبة بالسخرية، قبل أن ترد ببرود: -اه يبقى انت اللي اتفقت مع البنات عشان ينزلوني غصب عني؟! أومأ برأسه، لم ينكر بل قال بنبرة ماكرة تفيض بالسخرية: -اه أنا عملت كده، وده كل في سبيل إن البرنسيس تنزل من البرج بتاعها وترضى تقابلني وتشوفني. تصلبت ملامحها وهي ترمقه بنظرة جامدة، نبرتها جافة حين قالت بوضوح: -بس أنا مش عايزة أشوفك يا آدم. كان وقع كلماتها أشبه بصفعة غير متوقعة، جعلته يححم بصوت خشن متسائلًا باندهاش مستنكر: -وده ليه؟! أمالت رأسها قليلًا، نظراتها لم تلن، قبل أن تجيبه بحدة: -انت ناسي آخر مرة انت عملت إيه!!، جاي في عزا عمك وتقولي اعمليلي توكيل، لدرجة دي همك الفلوس والـ…. تصلب فكه من وقع كلماتها اللاذعة، لكنه بادر بالدفاع عن نفسه بنبرة لم تخلُ من القسوة: -حاسبي على كلامك عشان ده هتتحاسبي عليه بعدين، ثم إني كده غلطان يعني لما اعوز احافظ على تعب ابوكي وتعبنا، وفي صفقات وامور كتير متعلقة في الشغل. لم تُبدِ أي تأثر بكلماته، بل ظلت على موقفها، نظراتها تنضح بالرفض التام: -ماتوضحش حاجة، نيتك واضحة وظاهرة اوي. ضغط على لحم شفته السفلى من الداخل، كأنه يحاول كبح غضبه قبل أن ينفجر، ثم قال بصوت خشن: -مشكلتك إنك ساذجة يا رقية، ومن كتر ساذجتك جريتي تعاندي فيا وتعملي توكيل لجوزك. التوى ثغرها بابتسامة ساخرة، نظراتها كانت تتحداه وهو يقولها بصوت جاف، مشبع بالسخرية: -امال اعملهولك انت، أنا مابثقش فيك أصلاً. أغمض آدم عينيه بقوة، يسيطر على أعصابه قبل أن ينفلت لسانه بألفاظ قاسية، ثم قال بجمود: -أنا لو عايز أنهب حاجة أو أسرق مكنتش هستنى لما عمي يموت، كنت وهو في المستشفى عملت مليون حاجة، وبعدين انهب واسرق إيه وأنا ليا أسهم في الشركة وفي المصانع ولو الشغل ده وقع أنا هتضر قبلك. نظرت إليه بنصف ابتسامة ساخرة، أمالت رأسها قليلاً وهي تتساءل: -امممم وإيه كمان؟ تجمدت ملامحه في قالب من القسوة، قبل أن يقول بجمود قاتل: -بلاش تريقة وفتحي مخك اللي خلاص صدا من كتر الاهتمام بحاجات تافهة وانزلي الشركة وتابعي شغلك وشغلنا اللي بيتدمر. عقدت حاجبيها بعدم فهم، نظراتها لم تخلُ من الريبة وهي تستفسر: -بيتدمر ليه؟! تنهد آدم، ثم قال بصوت خافت، يقترب أكثر، كأنه يخشى أن تسمعه الآذان المحيطة: -عشان جوزك مابيفهمش حاجة وبيورطنا معاه ومستغل إنك صاحبة اكبر الاسهم وبيعمل اللي هو عايزه ولا فارق معاه كلامنا ولا كلام الموظفين اللي هما اقدم منه في الشركة. لكن رقية لم تهتم بأي مما قاله، بل تساءلت مستنكرة، وكأن كل ما يفعله فارس لا يهمها سوى في نقطة واحدة: -انت ليه دايمًا بتحاول تقلل من فارس مع أنه شاطر جدًا وأنا واثقة فيه! راقبها آدم، يتفحص ملامحها التي تعكس تمسكها القوي بزوجها، ذلك الأمر الذي يغضبه أكثر مما ينبغي، لكنه كتم انفعاله، ثم قال بصوت يفيض بالحقد المكبوت: -واثقة فيه كدكتور بس مش في بيزنس يا رقية. ثم أكمل بنبرة أكثر صرامة، يشرح لها ما يحدث خلف ظهرها: -جوزك هيورطنا في صفقة مشبوهة وأنا حذرته وجوز عمتك حذره وبشمهندس يوسف واظن انتي عارفة ده بالنسبة لعمي كان إيه بردو حذره وهو مابيسمعش كلام لحد. لمعت عينا رقية لأول مرة بوميض من القلق الحقيقي، للمرة الأولى شعرت أن هناك ما يستحق الانتباه، لكن ذهنها كان مشوشًا، أتصدق آدم؟ أم تثق في فارس؟ لاحظ آدم ترددها، فحاول أن يدفعها لاتخاذ قرارها بسرعة، نبرته تحولت إلى بحر من الحنان: -رقية تعالي انزلي الشغل وأنا هعلمك وهقف جنبك ومفيش حد هيبخل عنك بأي حاجة صدقيني، أنا مش ضدك على فكرة، انتي مني ومن دمي. لكنها زفرت ببطء، ثم قالت بصوت هادئ لكنه حاسم: -شكرًا يا آدم، بس أنا مش عايزة، أنا هفشل وجود فارس احسن، وماتقلقش أنا هتكلم معاه في الموضوع ده. تراجع آدم للخلف، حدق بها للحظة، ثم وقف ببطء، وقبل أن يرحل، ألقى بتهديده الأخير بصوت واضح حاد: -ماشي يا رقية خليكي على راحتك، بس لو جوزك أصر وانتي ماعرفتيش توقفي المهزلة دي، كلنا حتى المستثمر الاجنبي هيسحب الاسهم بتاعتنا وصدقني وجودنا في الشركة فارق جدًا في السوق، لما نتفرق ده مش في مصلحتك أبدًا، سلام. ثم غادر، تاركًا وراءه رقية في دوامة من القلق، تتساءل لأول مرة… هل ارتكبتُ خطأً فادحًا بمنح فارس كل هذا النفوذ؟ لذا قررت أن تخرج هاتفها مجددًا وتجري اتصالاً من المهندس يوسف  ذراع والدها الأيمن، تسأله عن العمل وعن تلك الصفقة وللمفاجأة أن حديثه كان متطابقًا مع حديث آدم بل ونصحها بسرعة مجيئها للعمل في الشركة إلا أنها أبدت رفضها ووعدته بالتحدث مع فارس وتفهم منه ما هو سبب إصراره على تلك الصفقة المشبوهة. *****   في مساء اليوم التالي… تحركت رقية ذهابًا وإيابًا في غرفتها، تراقب عقارب الساعة التي تزحف ببطء شديد، بينما تنهشها الحيرة والقلق انتظارًا لعودة فارس، غاب ليلةً كاملة بحجة سفره إلى الإسكندرية لمتابعة أحد المصانع الكبرى، لكن غيابه الطويل أشعل فتيل الضيق في قلبها، خاصةً مع الضغوط المتزايدة عليها بشأن تلك الصفقة المشبوهة، الجميع يطالبها باتخاذ موقف، وهي تتهرب من اتصالاتهم المتكررة، لكن صبرها بدأ ينفد. قررت النزول إلى البهو لانتظاره هناك، فالتقطت مئزرها الحريري وربطته بإحكام حول خصرها الممشوق قبل أن تخطو خارج غرفتها، بحثًا عن نرمين، إلا أن صوت انفتاح باب القصر لفت انتباهها، فتسارعت خطواتها بحنق واضح، وقبل أن يلتقط فارس أنفاسه بعد عناء السفر، واجهته بلهجة معاتبة: -كده يا فارس إيه التأخير ده كله؟ رمقها فارس بنظرة غامضة، وكأنه يحاول استيعاب سبب حنقها المفاجئ، لكنها لم تمنحه فرصة للرد، بل تابعت بنبرة ممتعضة: -هو أنا مش قولتلك أنا عايزك في حاجة ضروري، المفروض مكنتش تسافر اسكندرية وتيجي تشوفني عايزة إيه! خلع سترته العلوية، مكتفيًا بقميصه الأبيض الناصع، وزفر بضيق قبل أن يرمقها بحدة قائلاً: -ده استقبالك ليا يعني بعد غياب يوم كامل!! لم تتراجع عن موقفها، بل زادت حدتها وهي تواجهه مباشرة: -عشان انت مش مضغوط زيي يا فارس، وكمان انت سايبني كده وكأنك رامي فازة في البيت ومش مهمة بالنسبالك! قطب حاجبيه باستنكار، وارتفع صوته بانفعال: -انتي بتهزري؟ هو انتي مش عارفة أنا في إيه؟ الشغل كتير جدًا عليا وأنا بحاول الم الدنيا وامشيها زي ما والدك كان عايش وفي الآخر أنا غلطان. في تلك اللحظة، هبطت ماهي من الطابق العلوي، ترتدي قميصًا ورديًا قصيرًا من قماش ناعم، ينسدل على جسدها بجرأة لا تتناسب مع سنها أو مكانتها كوالدة فارس، كانت حركاتها مفعمة بأنوثة مستفزة، مما أثار استغراب رقية واشمئزازها في آنٍ واحد، ولكن قبل أن تستوعب رقية الأمر، تساءلت ماهي بقلقٍ مصطنع وهي تمثل الدهشة: -في إيه يا ولاد صوتكم عالي اوي، وبتزعقوا ليه كده؟! نظرت إليها رقية باستغراب، متسائلة في نفسها عن سبب جرأتها في ارتداء مثل هذه الملابس أمام ابنها، لكن فارس سرعان ما استحوذ على انتباهها بصوته الغاضب وهو يشير نحوها: -الهانم بدل ما تستقبل جوزها بعد سفر وقرف الشغل، واقفة بتزعق لي عشان سايبها!! التفتت إليه رقية باستنكار، متفاجئة من حدته غير المعتادة، ثم قالت بتوتر: -فارس أنا مبقولش كده، أنا زعلت عشان طلبتك ضروري وانت ولا فارق معاك وسافرت. وضعت ماهي ذراعها العاري حول كتف فارس، تربت عليه بلطف وهي تقول بنبرة متوددة: -استنى يا فارس نعرف إيه الحاجة الضرورية اللي هي كانت عايزاك فيها، ما هو بردو رقية مش هبلة عشان تزعلك منها وانت يا حبيبي الله يكون في عونك سايب شغلك اللي بتحبه وماسك شغلها كله!   -شكرًا يا طنط…. سوري يا ماهي. قالتها رقية بسخرية خفية، قبل أن تكمل بجدية: -فعلاً أنا مش مجنونة عشان اتخانق معاك كده على الفاضي، المهم آدم كان معايا امبارح في النادي…. قاطعها فارس فجأة، مشددًا نبرته بعصبية: -وانتي بتشوفيه من ورايا ليه يا رقية؟! رفعت حاجبيها بدهشة من نبرته الحادة، وردت باضطراب: -فارس، ده يبقى ابن عمي، مالك في إيه؟! وبعدين أنا ماشوفتوش باتفاق ما بينا، ده هو جه صدفة وقالي إنك مُصر على صفقة….. قاطعها مجددًا، لكن صوته هذه المرة جاء مشحونًا بغضب أشد: -صفقة مشبوهة مش كده؟! وصدقتيه صح!! وجاية تكلميني اسمع كلام واحد عايز يوقعك ويلهف كل حاجة في جيبه هو وجوز عمتك اللي من مصلحته ياخد الشركة والمصانع، وبعدين انتي عارفة أنا كنت في مصنع اسكندرية ليه عشان جوز عمتك أمر العمال يوقفوا عن الشغل ومايكملوش بيلوي دراعي حضرته. ارتبكت رقية، وشعرت بأن الأرض تميد تحت قدميها، لكنها قالت بصوت مهتز: -أنا مش مصدقاه، بس بشمهندس يوسف بابا الله يرحمه كان بيثق فيه اوي وهو كمان ضد الصفقة دي…. قهقه فارس بسخرية لاذعة، ثم قال بحدة: -ضدها عشان حضرته معاهم وعايزين الشركة تفضل تخسر وتتباع برخص التراب، شوفي أنا بعملك إيه وأنتي واقفة ضدي ومع ناس يتمنوا يموتوكي ويورثوكي بالحيا. قالتها ماهي بصوت ناعم وهي تحتضن فارس، ثم قبلته على وجنته بحميمية، مما جعل رقية تشعر بغصة غريبة في حلقها، لكنها لم تفهم مصدر هذا الانزعاج الغريب الذي راودها. -تؤ…تؤ، اهدي يا حبيبي طول بالك، أكيد رقية ماتقصدش خالص، مش صح يا حبيبتي!! جذبته ماهي من ذراعه برقة، هامسة: -تعال اطلع يا حبيبي في اوضتي ريح جسمك واقرالك قرأن زي ما أنا معوداك. تقدم فارس نحو الطابق العلوي، تاركًا رقية تنظر إليه بحزن وانكسار، حاولت مناداتها بصوت رقيق: -فارس أنا…. -سيبه النهاردة عشان هو كده اتعصب اوي، واحتمال ياخد قرارات مش في مصلحتك، أنا هحاول اهديه، اطلعي انتي حاولي تنامي. راقبت رقية صعودها نحو الدرج، فيما تجمعت الدموع في عينيها دون أن تدري لماذا، لكن لم يكن لديها وقت لاستيعاب مشاعرها، فقد شعرت بيد نرمين تربت على كتفها بحنو: -ست البنات، أنا ماشية عايزة حاجة. التفتت إليها رقية، وفور رؤيتها لها، انهارت باكية في أحضانها، بينما نرمين تربت على ظهرها بحزن، كانت تعلم أن رقية هشة، رقيقة القلب، لا تستحق هذه القسوة، لكن كلماتها تعلقت عند طرف لسانها، وعندما هدأت رقية قليلًا، همست بصوت متهدج: -نرمين لو سمحتي ممكن تجيبلي صندوق الاخضر الكبير اللي في اوضتي الصغيرة، أنا محتاجاه دلوقتي. أومأت نرمين برأسها، وهي تعلم تمامًا ما يحمله ذلك الصندوق من ذكريات طفولة رقية ودفء والديها الراحلين، تلك الأشياء الصغيرة، وحدها كفيلة بأن تربت على قلبها المكسور. صعدت رقية إلى غرفتها الكبيرة التي تشاركها مع زوجها، مثقلةً بمشاعر الحزن والتعب، بينما توجهت نرمين إلى الغرفة الصغيرة القابعة في آخر الرواق، تنفذ ما طلبته سيدتها دون تردد، فتحت الخزانة بحذر، بحثًا عن الصندوق الأخضر الكبير، وما إن قبضت عليه بين يديها حتى استوقفها صوت همهمات خافتة آتية من الشرفة المجاورة. شعرت بوخزة قلق تسري في أوصالها، فتقدمت في حذر نحو الشرفة المتصلة بشرفة الغرفة التي تشغلها تلك المستفزة ماهي، حركها الفضول والخوف في آنٍ واحد، فمالت بجسدها قليلًا خلف زجاج الشرفة، ووضعت يدها على المقبض، تدفعه قليلًا دون أن تصدر أدنى صوت، ثم تسللت بنظراتها عبر الستائر نصف المسدلة
تم نسخ الرابط