طعنة في الظل
تراجعت نهلة قليلاً، وقد بدأت ضربات قلبها تتسارع، وسألت بقلق:
-حاجة إيه؟!
شدّت ولاء على كفها، وأجبرتها على الاستماع بجدية:
-وائل قالي إن جوزك المستشفى طردته من خمس شهور لما مسكوه متلبس وهو بيحاول يسرق!
جحظت عينا نهلة، واهتزت يدها وهي تهمس بصدمة:
-بيسرق؟!
أومأت ولاء برأسها مؤكدة، ثم تابعت بحزم:
-اه خدي الكبيرة وائل بيقولي دي مستشفى استثماري اصله شغال فيها محاسب يا نهلة، وبيقولي مافيش تحاليل فيها بـ ٨٠٠ جنية، اقل حاجة ٦٠٠٠ ولا ٧٠٠٠ جنية، ولما قولتله اتاكد راح الصبح وقالي مفيش أي اسم عمل تحاليل اسمها نهلة محمود فايز أصلاً، خدي المفاجأة دي بقى فيفي دي ممرضة أطفال وملهاش أي دخل بالتحاليل والاشاعات.
شهقت نهلة، وقد بدأت أطرافها ترتجف، بينما الدموع انسابت فوق وجنتيها بغزارة، أشارت نحو نفسها بذعر وهي تهتف بصوتٍ متهدج:
-يعني أنا ممكن أكون مش عندي سرطان أصلاً؟!
أومأت ولاء برأسها بحماس، وقد تحوّلت نبرتها من الغضب إلى الأمل:
-ايوه وائل قالي خليها تعيد التحاليل في مستشفى تانية وجوزها مايعرفش، وقعد يشتم في الزفت طلال كتير اوي، وبيقولي إنه هو واللي اسمها فيفي دي أصلاً مش مظبوطين.
في تلك اللحظة، رفع عمر رأسه وقال بشرود، وكأنه استعاد ذكرى قديمة:
-أنا سمعته قبل كده وهو بيضحك مع واحدة اسمها فيفي وبيقولها إن هو هيجبلها ماما بكرة وتعمل اللازم.
انتفضت ولاء من مكانها، ووضعت يدها على كتف نهلة بحزم:
-شوفتي يا نهلة، سمعتي كلامي، قومي بينا الفلوس اللي انتي محوشاها معايا على كام قرش نعمل تحاليل تانية ونطمن.
نظرت نهلة إليها بعينين غارقتين بالدموع، لكنها هذه المرة لم تكن دموع يأس… بل مزيج من رجاءٍ وأملٍ في أن تكون الحقيقة أقل قسوة مما ظنت.
****
يومان ثقيلان على نهلة، انتظرت خلالهما نتائج التحاليل
وهي بين الأمل والخوف، بين رجاءٍ بأن تكون سليمة، وقلقٍ مما قد تكشفه لها الحقيقة، وعندما ظهرت النتائج أخيرًا، لم تصدق عينيها…كانت التحاليل سليمة تمامًا، لا سرطان، لا مرض خبيث، لا شيء سوى نقصٍ حادٍ في الحديد، يحتاج إلى بعض الدواء لتستعيد عافيتها من جديد.
وقفت في منتصف الغرفة، تحدق في الأوراق بيدين مرتجفتين، بينما شعرت بأن ثقلًا هائلًا قد انزاح عن صدرها، لم تكن تعلم إن كان عليها أن تبكي فرحًا، أم تغرق في مرارة الخديعة التي تعرضت لها، اختلطت مشاعرها بين الراحة التي اجتاحت جسدها بعد أن أدركت أنها ستعيش، وبين الألم الذي اعتصر قلبها حين تذكرت كم مرة استسلمت لفكرة الموت بسبب أكاذيب طلال.
تذكرت نظراته، كلماته الباردة، خططه الدنيئة، وكيف استغل ضعفها ليبرر خيانته وغدره، تذكرت كل إهانة، كل استغلال، كل لحظة شعرت فيها أنها لا شيء أمام جبروته، لم يكن المرض هو ما كاد يقتلها… بل هو.
في تلك اللحظة لم تتردد، لم تفكر مرتين، ارتدت عباءتها، وحملت حقيبتها، وخرجت من المنزل بخطواتٍ ثابتة، كأنها امرأة وُلدت من جديد، توجهت مباشرة إلى مكتب محامٍ في منطقتها، وجلست أمامه، تنظر إليه بعينين يملؤهما الإصرار، وهي تقرر الانفصال عن طلال ورفع قضية خلع عليه.
لم يكن قرارًا وليد اللحظة، بل حصيلة سنواتٍ من الإهانة، الغدر، والخداع، لقد نجاها الله من المرض، لكن لا نجاة لها إن بقيت مع رجلٍ مثل طلال مخادع، آن الأوان لأن تسترد نفسها، وتبدأ من جديد… بعيدًا عنه.
عادت بعدما أتمت اتفاقها مع محاميها، وما إن دخلت منزلها حتى وجدت طلال ينتظرها، وقد ارتسمت على وجهه علامات الغضب، وهو يقول بنبرة مستنكرة:
-كنتي فين يا نهلة؟! وازاي تخرجي من غير إذني، انتي مش عارفة إنه حرام يا محترمة، مش خايفة على نفسك لما تموتي وانتي بتعصي جوزك…
بترت حديثه بسخرية حادة:
-مش لما اموت بقى؟!
انكمش وجهه ونظر إليها بانزعاج من سخريتها، قبل أن يسألها بنبرة متوترة:
-يعني إيه؟!
ضحكت بسخرية وهي تلقي حقيبتها الصغيرة على إحدى الطاولات بجوار الباب:
-اسكت يا طلال مش أنا طلعت سليمة ومعنديش سرطان ولا حاجة، ولاد الـ *** ضحكوا عليا وادوني تحاليل مش بتاعتي! عارف ولاد الـ *** دول مين؟!
رفع حاجبه بغضب، وقد بدا الانفعال مكتومًا في صوته وهو يسألها مرة أخرى:
-كنتي فين يا نهلة؟!
رفعت رأسها بثبات وقالت بجرأة:
-كنت عند المحامي بقوله يرفعلي قضية طلاق، مبقتش مستحملة افضل مع واحد زيك لامؤاخذة خاين!!
اندفع نحوها بغضب، وأمسك بحجابها، وجذب رأسها إلى الخلف، قابضًا على خصلاتها بقوة وهو يصرخ:
-طلاق مين يا بنت الـ **** ده انا اموتك واحرقك ولا إنك تتطلقي واطلع منك بلوشي كده.
دفعته بكل قوتها، لم تعرف من أين أتت بهذه القوة، لكنها نظرت إليه باشمئزاز قائلة:
-اه قول كده بقى، عايز إيه مني تاني، فلوسي وواخدها مني كلها، ماحلتيش حاجة للأسف!
اقترب منها أكثر، يصيح بصوت هادر اهتز له المكان:
-لا حيلتك الشقة يا روح أمك، عايزة تطلقي تكتبي الشقة باسمي وفي ستين داهية تاخدك انتي وعيالك.
صرخت بعنف، رافضة مساومته:
-لا طبعًا دي شقة أبويا يا نطع، وبردو هتطلقني!
اندفع نحوها وصفعها بعنف، فيما تعالت شهقاتها وصراخها، لكنه لم يتوقف، بل أردف بصوتٍ مشحون بالشر:
-لا مش هطلقك وهعذبك يا نهلة هتشوفي مني الويل، طلاقك قصاد شقتك فاهمة ولا لا.
حاولت الفرار من قبضته القاسية، لكن عنفوانه كان أكبر، فصرخت بكل ما أوتيت من قوة:
-واقسم بالله لو ما بعدت عني وعن عيالي لاموتك واخلص من قرفك ده.
قهقه ساخرًا بصوت يملؤه الغل:
-هو انتي بتعرفي تهشي فرخة، انتي نهايتك على ايدي والليلة دي.
حاول الاقتراب منها مجددًا، لكنها تراجعت للخلف، وعيناها تبحثان بيأس عن مهرب، فجأة، لمحت سلاحه الذي يحمله دائمًا في جيبه، اندفعت نحوه، أمسكت بالسلاح بسرعة، واستدارت نحوه، يملؤها الغضب والكره، وهي تصرخ:
-هقتلك يا طلال، مش هسيبك تعيش لحظة وتقرفنا، الشقة دي شقة عيالي.
ارتجفت يدها، لكن عينيها كانتا تشعان بالقوة للمرة الأولى منذ سنوات، بينما كان طلال يحدق فيها بصدمة، غير مصدق أن الفريسة التي طالما استضعفها… قد تحولت إلى صيادة.
***
عودة إلى الوقت الحالي..
جلست نهلة أمام الضابط المسؤول عن التحقيق، جسدها يرتجف ودموعها تنهمر بحزن وأسى بعدما انتهت من رواية ما حدث، نظرت إليه برجاء، قائلة بصوت مرتعش، تحاول أن تقنعه ببراءتها:
-والله يا بيه، ما قتلته.
تأملها الضابط بهدوء، ثم أعاد سؤاله:
-روحتي فين بعدها؟!
أطلقت تنهيدة ثقيلة، ثم شردت بنظرها، كأنها تسترجع المشهد في ذهنها، وقالت بصوت خافت:
-روحت لولاء صاحبتي يابيه، بعد ما زق ايدي والمطوة وقعت من إيدي يا بيه جريت وهربت منه، اقعد عند ولاء لغاية ما عيالي يطلعوا من المدرسة واروح اخدهم وارجع بيهم عند ولاء تاني.
أمعن الضابط النظر فيها، ثم سألهـا مجددًا:
-بس ابنك مالك قال إنه كان في البيت وشافك وانتي ماسكة المطوة وبتهددي ابوه والجيران سمعوا خناقتك مع ابوه وكمان بصامتك على المطوة يا نهلة ومفيش أي بصمات تانية!
تراجعت نهلة قليلاً، وقد بدأت ضربات قلبها تتسارع، وسألت بقلق: -حاجة إيه؟! شدّت ولاء على كفها، وأجبرتها على الاستماع بجدية: -وائل قالي إن جوزك المستشفى طردته من خمس شهور لما مسكوه متلبس وهو بيحاول يسرق! جحظت عينا نهلة، واهتزت يدها وهي تهمس بصدمة: -بيسرق؟! أومأت ولاء برأسها مؤكدة، ثم تابعت بحزم: -اه خدي الكبيرة وائل بيقولي دي مستشفى استثماري اصله شغال فيها محاسب يا نهلة، وبيقولي مافيش تحاليل فيها بـ ٨٠٠ جنية، اقل حاجة ٦٠٠٠ ولا ٧٠٠٠ جنية، ولما قولتله اتاكد راح الصبح وقالي مفيش أي اسم عمل تحاليل اسمها نهلة محمود فايز أصلاً، خدي المفاجأة دي بقى فيفي دي ممرضة أطفال وملهاش أي دخل بالتحاليل والاشاعات. شهقت نهلة، وقد بدأت أطرافها ترتجف، بينما الدموع انسابت فوق وجنتيها بغزارة، أشارت نحو نفسها بذعر وهي تهتف بصوتٍ متهدج: -يعني أنا ممكن أكون مش عندي سرطان أصلاً؟! أومأت ولاء برأسها بحماس، وقد تحوّلت نبرتها من الغضب إلى الأمل: -ايوه وائل قالي خليها تعيد التحاليل في مستشفى تانية وجوزها مايعرفش، وقعد يشتم في الزفت طلال كتير اوي، وبيقولي إنه هو واللي اسمها فيفي دي أصلاً مش مظبوطين. في تلك اللحظة، رفع عمر رأسه وقال بشرود، وكأنه استعاد ذكرى قديمة: -أنا سمعته قبل كده وهو بيضحك مع واحدة اسمها فيفي وبيقولها إن هو هيجبلها ماما بكرة وتعمل اللازم. انتفضت ولاء من مكانها، ووضعت يدها على كتف نهلة بحزم: -شوفتي يا نهلة، سمعتي كلامي، قومي بينا الفلوس اللي انتي محوشاها معايا على كام قرش نعمل تحاليل تانية ونطمن. نظرت نهلة إليها بعينين غارقتين بالدموع، لكنها هذه المرة لم تكن دموع يأس… بل مزيج من رجاءٍ وأملٍ في أن تكون الحقيقة أقل قسوة مما ظنت. **** يومان ثقيلان على نهلة، انتظرت خلالهما نتائج التحاليل