طعنة في الظل

طعنة في الظل
طعنة في الظل
“ليلة الجريمة” نظرت إلى الجسد الملقى أمامها بذعر، وقد تجمدت أطرافها من هول الصدمة، حتى خيل إليها أن أنفاسها تتلاشى تدريجيًا، فيما ازداد شحوب ملامحها فوق شحوبها المعتاد. -قتلتيه ليه؟ رفعت رأسها بذهول، تطالعه بعينين جاحظتين، وقد اجتاحها انهيار تام، راحت تحرك رأسها يمينًا ويسارًا في نفي مذعور، فيما خرجت كلماتها متشابكة، مرتجفة، كأنها تخشى ألا يصدقها أحد: -ماقتلتوش، والنعمة ما قتلته، ماقتلتوش، صدقني ماقتلتوش. ** قبل شهر واحد.. تحركت نهلة بخطوات ثقيلة، يجرها الإرهاق نحو أحد الشوارع المؤدية إلى عملها في مصنع تجهيز الملابس، كان جسدها الصغير يوحي بأنها فتاة عشرينية، إلا أن سنوات عمرها الخمس والثلاثين قد حفرت أثرها بوضوح على ملامحها المنهكة، فيما بدت روحها كعجوز أنهكتها الحياة، تنتظر نهايتها بصمت. كان الجو شديد الحرارة، وكأن نسمات الهواء قد احتجزت بين أشعة الشمس الحارقة، التي تساقطت فوق رأسها بلا رحمة، لم تجد ظلًا تلوذ به، فاكتفت بمسح العرق المتصبب من جبينها، والذي التصقت به خصلات شعرها البني المتسرب من أسفل حجابها المعتاد. زفرت بضيق ونفاد صبر عندما اقتربت من بوابة المصنع الكبيرة، حيث استقبلها العامل المسؤول عن دخول العمال، وهو يزجرها بنبرة غاضبة: -خلصي يا ست نهلة هتجيبلي الكلام، خشي بسرعة أوووام. امتثلت للأمر، تدلف إلى الداخل وهي تهمس برجاء وامتنان، فقد تأخرت اليوم عن عملها إثر شجارها الصباحي المعتاد مع زوجها المدمن، الذي لا يعمل ولا يعرف من الحياة سوى الاتكال عليها. -معلش يا عم طه أخرتك، والله آخر مرة وما هتحصل تاني، وحياتي عندك ما تقول لأبلة نجلاء حاجة، حكم هي مش طايقني من امبارح. جاءها صوت مرح من خلفها، يحمل سعادة خفية: -افرحي يا فقرية، أبلة نجلاء ماجتش النهاردة. التفتت نهلة بسرعة، لتجد صديقتها ولاء تستقبلها ببسمة صافية، فاحتضنتها
نهلة بمحبة مماثلة، وقد شعرت ببعض الراحة أخيرًا: -الحمد لله حكم هي كانت لو شافتني النهاردة كانت كدرتني على البلوزة اللي بوظتها امبارح، مع إن والله غصب عني. تدخل طه بفضول، متسائلًا بتعجب: -انتي بوظتي بلوزة يا نهلة امبارح وخصموا منك ولا لأ؟ أومأت نهلة نفيًا، وقالت بحزن: -لا، عشان اغمى عليا والمكنة فلتت مني قطعت القماش، بس بصات أبلة نجلاء ليا لما فوقت كلها كره وضيق، فعرفت إنها ناويالي على حاجة النهاردة! -حظك مجتش بيقولوه عندها برد، يلا خشوا شوفوا شغلكم، اكيد الادارة هتنزل عليكم حد يتابع الشغل. تحركت نهلة وولاء معًا، واستمعا إلى أوامر طه الصارمة، قبل أن تميل ولاء على صديقتها، تتساءل بقلق: -روحتي يا نهلة لدكتور؟ وشوفتي ليه بيغمى عليكي كده! أجابت نهلة وهي تتنهد بثقل وأسى: -لا طلال مارضيش، قالي دوخة عادية. شهقت ولاء بصدمة، وهي تردف بانزعاج: -يمين الله انتي عايزة قلمين على وشك، عشان تفوقي وتبطلي تسمعي كلام جوزك النطع ده، يا بت ما ده انتي وقعتي من طولك الشهر ده أربع مرات، لازم تتطمني على نفسك. جلست نهلة خلف ماكينة الخياطة، وهي تحاول رسم ابتسامة زائفة: -يا بت ما هو طلال بردو ممرض وفاهم. مالت ولاء نحوها، تهمس بغيظ: -ممرض مش دكتور يا نهلة، فوقي كده، وبعدين ده عواطلي يعني مابيفهمش. كانت نهلة تدرك تمامًا منطقية حديث صديقتها، لكنها لم تجرؤ على البوح بالحقيقة كاملة، لم تستطع إخبارها أن شجارها مع طلال هذا الصباح كان سببه رفضه القاطع لذهابها إلى الطبيب، وأنه لم يكتفِ بذلك، بل انتزع منها المال بالقوة، تاركًا إياها تتوسله لاستعادته، دون جدوى، لم يكتفِ طلال بسرقة تعبها، بل أضاف إلى معاناتها صفعة قاسية، كتمت بها شهقاتها حتى لا يعلو صوت بكائها. صَبت كامل تركيزها في خياطةِ
السترةِ البيضاءِ التي بين يديها، تُدخل الإبرة وتُخرجها بخفة ومهارة، بينما كانت عينها تراقب الخيوط وهي تتشابك بانسجامٍ دقيق، على الجانب الآخر، أخرجت ولاء مبلغًا من المال ومدته نحو نهلة، قائلةً بصرامةٍ لا تخلو من القلق: -خدي روحي اكشفي واعملي تحاليل، وإياكي تجيبي سيرة لجوزك النطع ده. ترددت نهلة للحظات، ثم أعادت المال ثانية بإصرارٍ وعزة نفس واضحة، قائلةً بصوتٍ هادئٍ لكنه حازم: -لا يمين الله ما محتاجة، أنا معايا فلوس. رفعت ولاء حاجبها بسخرية، وابتسمت ابتسامةً ساخرةً وهي تقرأ في عيني صديقتها البائسة كذبها المغلف بالكبرياء، أمالت رأسها قليلاً وقالت بنبرةٍ ساخرةٍ مغموسةٍ بحنانٍ خفي: -ياختي اسكتي، ما أنا عارفة إنك بتخلصي فلوس الشهر اول بأول، خدي واقعدي ساكتة. مدت يدها بالمال مجددًا، ولم تترك لنهلة مجالًا للرفض، فتنهدت الأخيرة باستسلام، عيناها ممتلئتان بمزيجٍ من الامتنان والحرج، بينما كانت أصابعها تلتف حول الأوراق النقدية ببطء. *** عادت نهلة من عملها عند آذان المغرب، والإنهاك ينهش في كل خلية من جسدها الضعيف، كانت تحمل حقائب بلاستيكية تحوي خضارًا وفاكهة، بينما يعلو صدرها ويهبط بفعل حرارة الجو المرتفعة، صعدت الدرج بخطوات ثقيلة، متمنية أن يخرج أحد أبنائها لمساعدتها في حمل الحقائب عنها، لكن فجأة دوى صراخ ابنها عمر، ذو الحادية عشرة من عمره، في أرجاء المكان، مما أفزعها وأجبرها على الركض بسرعة فوق الدرج، حتى سقطت الحقائب من يديها، وتناثرت محتوياتها على درجات السلم. طرقت على الباب بعنف شديد حتى فتحه لها زوجها، طلال، ببنيته الجسدية القوية وطوله الفارع، مما اضطرها إلى رفع رأسها عاليًا لتنظر إليه. قال بسخرية جافة، وعيناه تضيقان بازدراء: -جيتي ياختي، تعالي شوفي خيبة ابنك. ردت بصوت مختنق بالذعر والتعجب: -خيبة ابني! تحركت إلى الداخل خطوتين، فرأت ابنها متكورًا على نفسه على الأرض، يبكي بمرارة، تسرب الخوف إلى أوصالها، وانطلقت نحوه تحتضنه بحنان وهي تهمس برفق: -مالك يا حبيبي؟ حصلك إيه؟ ازداد نشيجه ألمًا، والصفعات التي تركت آثارها على وجهه الصغير كانت كفيلة بأن تُسبب له وجعًا جسديًا ونفسيًا، رفعت رأسها، وحدقت في زوجها بامتعاض، وقد باتت تمقت برودة نظراته وجبروت وجهه القاسي. سألته بحدة: -ماله الواد يا طلال، عمل إيه؟ قهقه بسخرية، وردّ بصوته الأجش: -عمل إيه؟! ابنك المحترم لقيت معاه فلوس ورايح يلعب بيها بلاي ستيشن في السايبر. قال كلماته بخشونة وقوة، بينما يشير باستحقار إلى الطفل الذي كان يخفي وجهه في صدر أمه، وكأنه وجد أخيرًا ملاذه الآمن من قسوة ذلك الوحش المفترس. رفعت نهلة رأسها، وردّت بصوت حاولت أن تبقيه هادئًا رغم الغضب الذي كان يعتمل في صدرها: -وفيها إيه يا طلال؟ أنا اللي مدياله الفلوس دول ٣٠ جنية يعني بسيطة! استشاط غضبًا، واستنفرت ملامحه كلها وهو ينظر إليها باستنكار، بينما كانت هي تجاهد للحفاظ على قناع الثبات أمامه، حتى لا يكشف خوفها، فيصفعها كما فعل في الصباح. زمجر بسخرية: -اه يعني انتي اللي بتفسدي الواد، وبعدين يا حلوة لما الفلوس سهلة عندك كده، بتتضايقي ليه؟ لما باخد منك فلوس! ودت لو تطلق العنان لسبابها في وجهه، لتكشف زيف قناع الرجولة الذي يرتديه وهو لا يفقه منها شيئًا! لكنها تمالكت نفسها، ووقفت مستقيمة، ثم قالت بصوت ثابت، رغم سهام العتاب التي أطلقتها نحوه، مدركة أنها لن تخترق قلبه القاسي:
تم نسخ الرابط