أجمل صدفة

المحتويات
كدت أنسى أنني رجلًا ناضجًا وأنا أقف أمام بائع غزل البنات الذي استوقفته للشراء منه فطعمه يُذَكِرُنِي بطفولتي، كنت معتادًا على الجلوس في هذه الحديقة من حين إلى آخر، فكل ما فيها يلهمني لكتابة قصائدي، اعتدت أن أجلس هنا على هذا المقعد أشاهد الأطفال وهم يلعبون، أو بعض المراهقين الذين يأتون إلى هنا خلسة كالشاب والفتاة الجالسان أمامي الآن، أرى الفتاة تنظر له بخجل، أظن أنه يلقي على مسامعها بعض الكلمات المبتذلة، وهذا ما أوحى لي بفكرة قصيدة جديدة جعلتني أُخرج قلمي ودفتري من الحقيبة لكني توقفت بعدما أتت فتاة وجلست بجواري، شعورًا غريبًا انتابني بعد أن نظرت لها، فتاة جميلة ترتدي فستانًا أزرق اللون وتعكص شعرها إلى الخلف بعشوائية، ملامحها يعتليها بعض الحزن، لماذا اختارت الجلوس بجواري رغم أن الحديقة غير مزدحمة؟
أظن أنها اعتادت الجلوس على هذا المقعد مثلي تمامًا فقررت الجلوس لكي تحرجني وتدفعني للمغادرة!
حسنًا.. لا مانع، سوف أغادر طالما حصلت على فكرة، فربما تكون هي أيضًا شاعرة أو كاتبة وأظن أن من حقها الحصول على إلهامها كما حصلت أنا، وضعت القلم والدفتر في حقيبتي من جديد لكن قبل أن أنهض سمعتها تقول:
– النهارده ذكرى وفاة حسام.
لا أعرف إن كانت تتحدث إليَّ أم تحادث نفسها بفكرة أُلهمت بها، لكني بلا سبب عدت وجلست بجوارها مرة أخرى، وسألتها وأنا أخشى أن تحرجني بسبب تطفلي عليها:
– بتكلميني أنا؟!
لم ترد على تساؤلي لكنها أكملت حديثها وكأنها لا تراني أو تسمعني:
– فضلنا نحب بعض أربع سنين وفجأة مات، والنهارده الذكرى بتاعته.
لم أعرف ما الذي عليَّ فعله بالضبط، هل أغادر أم أنتظر، في الحقيقة هي لا تبدو في حالة عقلية جيدة فربما لو
غادرت الآن ستستغل فرصة وجودها بمفردها وتحاول أن تنهي حياتها، يبدو أن حسام هذا كان يمثل لها شيئًا كبيرًا فقررت المكوث قليلًا، أظن أن القدر وضعني في طريقها اليوم، فقررت أن أواسيها ولو بالكلمات:
– البقاء لله، هو أكيد في مكان أحسن دلوقتي.
نظرت لي وكأنها لم تنتبه لوجودي سوى الآن وقالت بأسى:
– عارف! كنا دايمًا بنقعد هنا على الكرسي ده، كان هو بيقعد مكانك هنا كده وأنا جنبه هنا، بس خلاص مش هيقعد جنبي تاني.
– ربنا يصبر قلبك، ويرحمه ويغفر له.. واضح إنك بتحبيه أوي.
– هو مين ده؟
– حسام الله يرحمه.
نظرت إليَّ بعيون متسعة يشع منها الغضب وقالت بحدة:
– بس متقولش الله يرحمه.
– أومال أقول إيه، ما هو ده اللي بيتقال لما حد بيموت.
– بس حسام مماتش، حسام كان خاين، يبقى أكيد ربنا مش هيرحمه.
قلت لها بتعجب:
– مش بتقولي ذكرى وفاته النهارده؟
تأففت ونظرت لي وكأنني يجب أن أكون على دراية بما سوف تقول:
– خرج من حياتي يبقى مات وغار في داهية كمان، وأنا اخترت آجي هنا أحيي ذكرى وفاته.. أقصد ذكرى اليوم اللي سابني فيه.
فهمت من حديث تلك الفتاة أنها صُدمت في حبها وربما فقدت عقلها بالفعل وإلا لم تكن تتحدث هكذا إلى شخص غريب عنها، لذلك أظن أنه من الصائب أن أغادر الآن، شعرت عليها ببعض الشفقة لكن لا يصح أن أجلس بصحبتها أكثر من ذلك، لكن كان هناك شيء يمنعني من المغادرة، مددت يدي إلى حقيبتي وسحبت منها بعض قطع غزل البنات التي اشتريتها وقدمتها إليها، نظرت إلى القطع وردية اللون ثم نظرت لي وابتسمت وقالت:
– متشكرة أوي، مش عاوزة حاجة.
ابتسامتها ساحرة، لا أدري لما تركها هذه الوغد وهي تمتلك أجمل ابتسامة في الكون، لا مانع من أن أطيل الجلوس معها قليلًا، فما هو أقصى شيء يمكن حدوثه، لا أظن أنها ستقتلني.
قربت منها القطع من جديد وأنا أصر على أن تقبلها مني.
– باقول لك اتفضلي.. متكسفنيش بقى خلاص.
– وهو أنا أعرفك علشان تتعشم فيَّ أوي كده.
– لأ.. لكن ممكن أتعرَّف عليكِ دلوقتي لو تحبي.. اسمك إيه؟
نظرت لي بغضب بينما بدأت في التهام القطعة الأولى ثم قالت لي:
– أنت اسمك إيه؟
فهمت أنها لا تريد أن تبوح باسمها، لن أضغط عليها في ذلك، فلا يهم معرفة اسمها الذي ربما سأنساه خلال ساعات:
– اسمي آدم.
– لو كان اسمك حسام كنت قتلتك.
ضحكت وسألتها:
– طيب مش هاعرف اسمك بقى!
– أنا باحب آجي هنا كل فترة أقعد ساعة وأمشي.. المكان ده له عندي ذكرى جميلة باحب أعيشها على طول، حتى لو صاحب الذكرى دي كان خاين وكذاب، لكن سمعت إنهم عاوزين يهدوه ويبنوا مكانه مول كبير.
فهمت أنها لا زالت تتهرب من إخباري باسمها، لكن هذا الكم من الرغبة في تعذيب النفس أثار فضولي فقررت أن أبوح لها عما بداخلي:
– هو مش غريبة شوية إن ذكرياتك هنا مع حد خانك وسابك وبتيجي هنا تعيشي ذكرياتك معاه، أظن لو بعدتي عن المكان هتقدري تتجاوزي القصة دي وتعيشي من غير جلد الذات ده.
– للأسف مش عارفة أعمل كده، يمكن علشان حاسة إن الذكريات دي مش بتاعته لوحده، أو فعلًا غاوية جلد ذات علشان كنت مغفلة ومش واخدة بالي من خيانته، لكن بما إنك متعرفش اسمي وممكن منتقابلش تاني فأنا عاوزة أحكي لك عن حسام، يمكن لو حكيت أقدر أعمل زي ما أنت بتقول كده وأخلص من الهم اللي شايلاه في قلبي.
كانت تتحدث بشكل عشوائي، تروي مواقف غير مرتبة، تتحمس تارة وتبكي تارة لكنها في كل حديثها لم تغفل أن تلعن حسام، كل ما استطعت فهمه مما أخبرتني به أنها أحبت جارًا لها وظلت تكن له المشاعر دون أن يدري، كانت تعيش على أمل رؤيته في ذهابه وعودته من الجامعة، لم تفكر حتى بالتحدث إليه أو التلميح له أبدًا فقد كانت تراه وتحادثه في أحلامها وكان هذا كافيًا لها، حبًا من طرفٍ واحد تعيشه وتغرق فيه بإرادتها، تعرف أن هذا الحب له نهاية حتمية ستحين عندما يعلن خبر خطبته من إحداهن، ستترك قلبها يعتصره الألم حينها قليلًا ثم تتزوج من الشخص المقدر لها، هكذا بكل استسلام كانت تتعايش مع أفكارها، حتى لاحظت صديقتها المقربة، أخبرتني أن اسمها دنيا، وبدأت صديقتها في تضخيم حُلمها وتزيينه، ببعض الأسئلة المشروعة:
– لماذا لا تُلميحن له؟
-لماذا لا تبدئي في التقرب إليه؟
– لماذا لا تصارحيه بمشاعرك في خطاب بإمضاء مجهول؟
راقت الفكرة لها وبدأت في تنفيذ مخطط ساذج للفت انتباه حسام، فبكل بساطة هي تحفظ موعد خروجه وعودته للمنزل، تعرف أنه يذهب إلى الجامعة بحافلة عامة تُقله يوميًا إلى هناك، فبدأت في التواجد أمامه بشكل مكثف، فكان يراها أمامه في الذهاب والإياب، بالإضافة لرؤيته لها داخل الحافلة التي كانت تغادرها ثم تسير إلى مدرستها ضعف المسافة التي كانت تسيرها يوميًا سيرًا على الأقدام، كل هذه التصرفات استطاعت بها أن تلفت نظر حسام، فقد كان واضحًا للغاية أن كل ما يحدث منها متعمدًا لإثارة اهتمامه فقرر ذات يوم أن يتقرب منها ويتعرف إليها، بدأ ينظر لها في الحافلة ويبتسم من حين لآخر، وكانت تبادله الابتسام بدورها، بتلك الابتسامة الخجولة لفتاة صغيرة تعطيها لمن تبادله المشاعر.
حاول ذات مرة أن يتحدث إليها فقرر ان يفوت محطته واختار أن يكمل معها إلى المحطة التالية، كانت تنظر له متعجبة وبداخلها شعورًا مريعًا بالخوف، لا تدري إن كان بسبب الخجل منه أم بسبب خوفها من بطش والدها لو علم أنها تصادق شابًا وتسير معه في الشوارع، اقترب منها وبدأ يتحدث لها عن إعجابه بها لكنها لم تعره اهتمامًا وهرولت من أمامه فجأة متجهة إلى مدرستها باحثة عن دنيا التي وبختها على تصرفها، وبدأت في وضع خطة جديدة ستقوم فيها بدور حمامة زاجلة تنقل رسائل المحبين، وبالفعل انتظرته ذات مساء على مقربة من منزله واستوفقته لتشرح له موقف صديقتها، وتذكر له كم هي خجولة ولم تمر بقصة حب من قبل، واتفقت معه على تدبير لقاء معها في إحدى الحدائق البعيدة عن المنزل حتى تستطيع مقابلته براحة بعيدًا عن أعين والدها وسكان الحي، في البداية رفضت اقتراح دنيا التي قامت بتوبيخها مرة أخرى ووصفتها بأنها فتاة ضعيفة لا تستحق الدعم، بل وقامت بتهديدها بمخاصمتها للأبد وإنهاء تلك الصداقة اللعينة إن لم تستجب لها وتذهب للقائه، بل هددتها أنها ستذهب بدلًا منها وستحصل عليه كحبيب في أقل من ساعة.
كانت تعرف أن دنيا تحبها وتتمنى لها نهاية سعيدة مع من اختاره قلبها، فرضخت في النهاية وذهبت لمقابلته، وتكررت بعدها المقابلات، كان حسام يتهرب من حضور محاضراته ليذهب إلى مقابلتها، وتقوم دنيا بالتغطية عليهما والتصديق على أنها كانت ترافق صديقتها يوميًا إلى المدرسة، حتى بعد دخولها الجامعة كانت تقابله في الكثير من الأوقات التي تسرقها دون أن يدري والدها، وكانا يكنان لدنيا مَعَزَّة خاصة لأنها قامت بتقريبهما لبعضهما فكانا يلجآن لها في الخلافات الساذجة التي بينهما، أو في إرسال رسالة من أحدهما إلى الآخر، وكانت أحيانًا تشاركهما اللقاءات كأصدقاء، وقد فتحت هذه اللقاءات بابًا للمقارنات أمام حسام، فقد كان يرى حبيبته هادئة خجولة تخشى والدها وتحترم قراراته، لذلك كانت تضع أمام حسام حدودًا أخلاقية في جميع تصرفاته معها، بينما يرى دنيا منفتحة على العالم، تضع الحدود التي تمكنها من عيش حياتها دون المساس بكرامتها أو أخلاقيتها لكن كانت تعجبه جرأتها، كان يخفي تلك المقارنات في صدره ولم يبوح بها أبدًا، لكنه ذات يوم قرر أن يخبرها بما في صدره، صديقتك أجمل وأظرف وأجرأ، لديها أخلاق مثلك تمامًا لكنك تتعاملين معي كصديقتك وليس كحبيبك، حاولي أن تتخلصي من مخاوفك قليلًا وإلا ننفصل.
ذهبت باكية لدنيا تخبرها أنه يقارنها بها، وأن المقارنة كانت دائمًا ليست في صالحها، وليتها ما فعلت، فقد بدأت دنيا في التفكير في حسام، وأصبحت تبرز أمامه كل المميزات التي علمت من صديقتها أنها تعجبه فيها، فكانت في بعض الأحيان تتعمد أن تجعل صديقتها تظهر كمغفلة أمامه وتصفها بالسذاجة وعدم النضج، كان هذا يحدث في السنة الرابعة والأخيرة لعلاقتهما معًا وعلاقتهما بدنيا كأصدقاء وبداية علاقة جديدة في الخفاء بين حسام ودنيا كعاشقان.
بدأت تُلاحظ تغير معاملته معها، وتهرب دنيا من التواجد معهما، كانت تتصوَّر أنها ترفض التواجد معهما بسبب أنها لا تريد أن تصبح سخيفة بأن تتواجد بينهما كعاشقان، لم تكن تفهم أنها تشعر بالغيرة من تواجده معها أو ربما بالذنب من رؤية صديقتها التي دفعتها دفعًا لهذه العلاقة تسحب بساط الحب من أسفل قدميها وتسلبها حبيبها بعد أربعة سنوات كاملة كانت شاهدة فيهم على قصتهما.
انتهى حسام من دراسته الجامعية وكانت هي تستعد لعامها الجامعي الأخير مع صديقتها دنيا، كادت أن تطير من السعادة عندما هاتفها حسام وطلب مقابلتها في أحد المقاهي القريبة من الجامعة، تفاجئت كثيرًا برؤية دنيا والطريقة التي تجلس بها إلى جواره لكن لا يهم، فثلاثتهم أصدقاء وهو كشقيقها الآن، جلست بعد أن قامت بتحيتهم وساد الصمت بينهم لبعض الوقت حتى استجمع حسام شجاعته وأخبرها أنه قرر أن ينفصل عنها واعتذر لها أنه لم يخبرها قبل هذا الوقت فلم يكن لديه القدرة والشجاعة لكنها كانت ستعرف خصوصًا أن الفتاة التي اختارها قلبه تعرفها جيدًا.
نظرت له ثم نظرت لدنيا أن تنقذها، طلبت من دنيا أن تتحدث له وتثنيه عن تركها، بدأت تتوسل لها وتبكي أمامهما بأنها ليس لها سواه وتحلم بلحظة جمعهما معًا تحت سقف واحد، وظلت تعطيه وعودًا بأنها ستتغير، وتصبح أكثر شجاعة وأكثر اهتمامًا به، وفي لحظة مفاجئة ربما لأنه شعر أنها ضحيته وضحية دنيا قرر أن يقوم بإيقاف تلك المهزلة وأخبرها
أن العروس هي دنيا.
توقف بكاؤها فجأة وتوقف الزمن من حولها، وفي هذه اللحظة قررت دنيا أن تتدخل وتشرح لها أن حسام لم يكن لها من البداية، وأن لولاها ما كانت تستطيع ان تقترب منه حتى سوى في أحلامها كما كانت تفعل، لذلك فقد وُضعت الأمور في نصابها الصحيح، خصوصًا وأنها تأكدت من مشاعره نحوها فلا داعي للمماطلة أكثر من ذلك ولننهي الأمر.
عادت مصدومة باكية لمنزلها لكنها لم تصمد كثيرًا وسقطت مغشيًا عليها، مصابة بصدمة عصبية حادة تسببت في عدم ذهابها لاختبارات نهاية العام، كانت تبكي ليلًا وتمسك بهاتفها باحثة عن رقم دنيا لتهاتفها وتشكو لها مما حدث ثم تعود وتتذكر أن دنيا هي السبب في كل هذا الألم فتغرق من جديد في وحدتها، تكتم ألمها الذي سيلازمها طوال حياتها بسبب أكثر شخصين أحبتهما، كانت أسرتها تتساءل عن سبب مرضها المفاجيء وهزالها المستمر لكنها كانت تتهرب من السبب، حتى علم والدها بالأمر من دنيا، فقد أخبرته أن ابنته كانت تحب خطيبها وشعرت بصدمة كبيرة وغيرة بعد سماع خبر خطبتهما، ومع تكتم ابنته على الأمر ورفضها الإفصاح عن سبب مرضها قام بتصديق دنيا، وأصبحت ابنته هي الشريرة الغيورة من صديقة عمرها.
قرر والدها أن يأخذ ابنته بعيدًا عن هذا الحي والانتقال إلى حي آخر قبل أن تلوك الألسنة سيرة ابنته، فهو يعرف جرأة دنيا وكثيرًا ما نصح ابنته بالابتعاد عنها لكنها لم تستجب له أبدًا.
مرت على هذه الواقعة سنةً كاملةً عانت فيها من جفاء والدها في معاملته، وألم فقدان حسام، والمعاناة في استذكار دروسها لتعويض عامها الدراسي الذي راح ضحية حبها، لم يتبقى لها سوى ذكرى مقابلة حسام لأول مرة في هذه الحديقة، تأتي إليها كل فترة لتسترجع ذكريات علاقتهما معًا باحثة عنه في الأرجاء لاقتناعها أنه سيعود يومًا ما، لكنها سترفضه انتقامًا لكرامتها.
انتهت من سرد قصتها مع حسام وتنهدت… تنهدت براحة كبيرة استشعرتها جيدًا، لكني لم أستطع أن أخفي ما بداخلي بعد سماع قصتها:
– أنتِ ساذجة جدًا.
ندمت على قولي ذلك بعدما ابتسمت بمرارة ونهضت لتغادر وهي تخبرني بصرامة:
– أنا مش عاوزة أشوفك تاني، ولو شوفتني اعمل نفسك متعرفنيش، اعتبرني حد قابلته صدفة في أتوبيس واتكلمت معاه شوية وكل واحد راح لحاله.
ابتعدت قليلًا ثم عادت وقالت لي بامتنان:
– شكرًا إنك سمعتني… أنا ارتحت لما اتكلمت.
تركتني وغادرت دون أن أفهم هل هي حقيقة أم مجرد إلهام كتلك الهلاوس التي تصيبني أحيانًا، أذكر ذات مرة أنني وجدت طفلًا صغيرًا منزويًا أسفل المبنى الذي أسكن فيه، أشفقت عليه وظننت أنه فقد والديه في الزحام، وخشيت من تركه وحيدًا خوفًا عليه من التعرض للاختطاف أو السير بعيدًا ثم يأتي أحدهم للبحث عنه فلا يجده، فقررت أن أستضيفه في منزلي وأخبرت حارس العقار أن يدل من يسأل عن طفل تائه، وأشرت للحارس على الطفل فلم يجد أحد، تكرر الأمر عدة مرات لكن كان أغربها تلك المرة التي كدت أغرق فيها وأنا نائم على فراشي، أنا واثق من أنه لم يكن كابوسًا لكن لن يصدقني أحد.
لا أعرف إن كانت تنتابني بعض نوبات الجنون أم أنها خيالات شاعر، لكني عدت من جديد إلى الحديقة في اليوم التالي في انتظار صدفة، فهل ستأتي؟
كنت أريد وبشدة أن أراها مرة أخرى، لا أعرف لما انجذبت إلى غريبة الأطوار هذه التي لم أتحدث إليها سوى قليلًا، كما أنني أردت التأكد أن رؤيتي لها ليست مجرد هلاوس، وإلا فسوف أكون مضطرًا لزيارة الطبيب النفسي.
كنت أذهب إلى الحديقة يوميًا وأطيل الجلوس في انتظارها، مرت عدة أيام بدأت أفقد الأمل بعدهم أنني سأراها مرة أخرى، وكانت تلوح لي فكرة الذهاب إلى الطبيب حتى لا تتفاقم حالتي العقلية، أو أغادر هذه الحديقة الملعونة بلا عودة لكني لم أنفذ أي من هذه الأفكار، كنت أذهب يوميًا بحجة البحث عن فكرة تلهمني لكتابة قصيدة لكني لم أكتب حرفًا واحدًا، أجلس على المقعد مثبتًا ناظريَّ نحو بوابة الدخول، أو سائرًا باحثًا عنها في باقي الأرجاء، كنت أكره نفسي وبدأت أشعر بنفس شعورها الذي تشعر به عند المجيء إلى هنا واستحضار ذكرى حسام، شعور لعين لا أدري كيف تحملته ولما تكبد نفسها هذا العناء، فهمتها الآن تمامًا، لكني أعرف في قرارة نفسي أنني لم أحبها، بالطبع لم أحب فتاة لم أرها سوى مرة واحدة تحدثت معها لبضع الوقت، فتاة متعلقة برجل وغد تركها وذهب لأخرى لكنها أحبت أن تستمر في الحياة كمغفلة… هل هذه غَيرَة؟
هل أنا أحمق لهذه الدرجة؟
كنت أذهب لعملي يوميًا ثم أتجه إلى الحديقة لأستلهم فكرة جديدة لقصائدي، كانت هذه هي حُجتي، فقد فقدت الأمل في أن أراها من جديد وتأكدت أنها مجرد خيالات شاعر مجنون كما يخبرني أصدقائي دومًا… انتهى الأمر حتى إن تخيلتها مرة أخرى فلن أحادثها حتى لا يتفاقم الأمر.
استمر الأمر هكذا وعدت إلى طبيعتي وكدت أن أنساها حتى عادت من جديد، ظهرت أمامي فجأة تسير على مهل وكأنها تبحث عن أحدهم، هل تبحث عني؟
قررت ألا أنجرف مع هذه الهلاوس من جديد، فوضعت أوراقي أمامي وشرعت في كتابة قصيدة جديدة:
يا حبيبتي…
توقف القلم وارتعشت يدي وسقط منها قلمي، نظرت حولي مرة أخرى فلم أجدها، فحمدت الله أنني لم أذهب لمحادثتها، ربما كان قام أحدهم بتصويري ونشر تصرفاتي الجنونية على المواقع وأنا أحادث الهواء، سأزور الطبيب بعد مغادرتي لهذه الحديقة، بل ولن تتطأها قدماي مرة أخرى، سأذهب وأجلس على ضفاف النيل أو أعتزل كتابة الشعر أفضل من هذا الجنون، انحنيت لأستعيد قلمي من الأرض ورفعت رأسي مرة أخرى فوجدتها أمامي، تقف على مقربة مني تنظر لي بارتياب ثم رمقتني بغضب وسارت مبتعدة، أظنها تضايقت لأنها رأتني من جديد، أم اعتبرت أن هذه الحديقة ملكية خاصة لها فقط، قررت أن ألاحقها لأفهم سبب هذا الغضب غير المبرر وإن كنت جننت فليحدث ما يحدث.
اقتربت منها مسرعًا وأنا لا أعرف بما أناديها، ثم اعترضت طريقها ووقفت أمامها لا أعرف ماذا أقول لها، فباغتتني وسألت:
– مش كنا اتفقنا إنك لو شُفتني هتعمل نفسك مش عارفني؟
– اعتبري إني صادفتك في الأتوبيس مرة تانية.
– عاوز مني إيه، أنا مش متعودة أتكلم مع ناس معرفهاش!
– لا يا شيخة! ده أنتِ حكيتِ لي قصة حياتك المرة اللي فاتت.
– ما علشان كده بقى مش عاوزة أكلمك تاني… ابعد عن طريقي بدل ما ألم عليك الناس.
تنهدت وقلت معتذرًا:
– طيب حقك عليَّ، أنا محتاج بس نتكلم شوية صغيرة ومش هاضايقك تاني.
تنهدت بضيق وتوجهت معي إلى مقعد أسفل شجرة كبيرة، حيث كان الوقت بمنتصف الظهيرة والشمس شديدة الحرارة، ويبدو أنها كانت مُتعجلة إلى المغادرة هذه المرة أو شعرت ببعض الندم بسبب ما حدث في المرة السابقة.
وضعت حقيبتها على قدميها وقالت وهي تنظر أمامها:
– عاوز إيه علشان لازم أمشي.
– أنا كنت طول الفترة اللي فاتت باجي كل يوم أدور عليكِ.
نظرت لي مباشرةً، كانت تنظر إلى عيني، ثم رفعت حاجباها وسألتني:
– ليه؟ بتحبني؟
ألجمني سؤالها، ما هذه الجرأة، ألم تقل لي أن حسام تركها بسبب خجلها الزائد، كنت أشعر أنني أتصبب عرقًا، فبدأت أستجمع كلماتي في محاولة للرد:
– أنا.. لأ.. إيه اللي بتقوليه ده؟
– الحقيقة أنا مش فاهمة منك حاجة ومش طايقاك ومش طايقة نفسي، جيت ورايا وكنت بتدور عليَّ ليه؟
– كنت عاوز أعرف أنتِ بجد ولا هلاوس!
– أنا هلاوس؟ تصدق إنك قليل الأدب، كلكم زي بعض والله، أنا كده متأكدة إن المشكلة مش من عندي.
لا أدري بأي حق تقوم بخلط الأوراق وتعقد مقارنة بيني وبين الوغد الذي على علاقة به، لم أقل شيئًا يستحق أن تقوم بِسَبِي من أجله فقلت معترضًا:
– أنا عملت إيه علشان تشتميني، أنا بس كنت…
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة