طعنة في الظل
-أنا عمري ما اتكلمت معاك لما بتاخد مني فلوس، بس الصبح الفلوس دي كنت محوشاها عشان اروح اكشف واشوف مالي تعبانة ليه.
ابتسم بسخرية، كاشفًا عن أسنانه الصفراء الباهتة، ثم قال بتهكم:
-انتي المفروض تبديني عن نفسك، انتي هتتحاسبي على كده يا محترمة يا اللي مش عارفة دينك كويس! امال أنا سايبك تشتغلي ليه؟! روحي في داهية انتي وعيالك الغم.
زفر بضيق وهو يخرج سيجارته، يشعلها ببطء، ثم ينفث دخانها في الهواء، قبل أن يقول بلهجة صارمة جعلت صغيره يضع يديه على أذنيه بقوة، خشية قسوة صوته:
-ماتديش لابنك فلوس تاني يا نهلة، ده آخر تحذير ليكي وليهم، وانت يالا لو شوفتك بتلعب تاني بلاي ستيشن هتضرب، فاهم ولا لا؟!
ثم استدار وغادر الغرفة بخطوات متعالية، كأنه طاووس يسير مزهوًا بنفسه، تاركًا خلفه جوًا خانقًا من الغضب والكره، بينما كانت أعين الأم وابنها تتابعان رحيله بامتعاض شديد.
فور مغادرته، رفع عمر نظره إلى والدته، وعيناه تلتمعان بقهر دفين، قبل أن يقول بصوت مرتجف، مشحون بالغضب المكبوت:
-انتي اللي بتصرفي علينا، وشايلة البيت فوق راسك، إيه لاذمته غير إن هو بيضربنا ومعيشنا عيشة تقرف؟!
زمت نهلة شفتيها، وحركت رأسها نفيًا، محاولة أن تخفف من حدة كلماته التي وجدت طريقها مباشرة إلى قلبها:
-لا يا عمر أبوك بردو له لزمة يابني، ومش هتعرف قيمته غير لما تكبر.
نظر إليها عمر بجمود، وكأن جملتها تلك كانت القشة التي أفاضت كأسه الممتلئ بالقهر، ثم اندفع مبتعدًا عنها، وعيناه تحملان ذات النظرة التي يرمق بها والده دائمًا، نظرة خالية من أي حب أو تقدير، بل فقط خليط من الغضب والاستياء:
-لا يا ماما أنا عمري ما هعرف قيمته صدقيني، ولو فضلتي تقولي كلامك ده، أنا بردو
نهض الصغير متكئًا على الفراش، جسده الصغير يرتجف من الحزن والقهر، ثم سار بخطوات متثاقلة نحو غرفته، بينما تساقطت دموعه الحارقة على وجنتيه.
أما هي، فجلست في مكانها، عاجزة حتى عن اللحاق به، وعيناها تفيضان بالدموع، ليس فقط على حزن ابنها، بل على حالها، وعلى قلة حيلتها التي تتزايد يومًا بعد يوم أمام جبروت زوجها المتحكم، لتصبح سجينة ضعفها، وخائفة من مستقبل أكثر ظلمة.
****
في المساء، جلس طلال في أحضان امرأة ثلاثينية، طويلة القامة، ذات جسد ممتلئ إلى حد ما، بملامح أنثوية حادة تزينها مساحيق التجميل التي وُضعت فوق وجهها باحترافية. كانت تمضغ علكتها بغنج، بينما تستمع إلى شكواه المستمرة من زوجته، التي أرهقها التعب ونال منها الإرهاق، متجاهلًا أنه هو من دفعها إلى دوامة العمل، لا لشيء إلا لتجني له المال الوفير.
قال بنزقٍ وصوتٍ غليظ يفيض بالغيظ الشديد:
-اللي مصبرني عليها يا فيفي شقة أبوها، اخليها تمضي عليها والله لمطلقها وراميها في الشارع النكدية بنت النكدي.
رفعت فيفي كوب الشاي بالنعناع إلى شفتيها، وارتشفت منه القليل قبل أن تقول بتفكير:
-وهي استسلمت يا طلال تاخد منها الفلوس اللي محوشاها كده عادي؟
رفع رأسه عن صدرها، ونظر إليها بكبرياء، ثم قال بصوته الخشن الذي يفيض تعاليًا:
-وهي تقدر يا فيفي تقول غير كده او ترفض حتى، هي عارفة كان هيجرلها إيه، لو كانت بس فتحت بوقها!
ابتسمت فيفي بسخرية، ونظرت إليه بتهكم، قبل أن تقول:
-هي بس ولية ضعيفة ومكسورة الجناح، بس خد بالك يا خفيف، لو فضلت تعاملها المعاملة دي، مراتك هتطق منك وتسيبك أنا حذرتك كتير اوي، وانت بردو بتتعامل بغشامة.
ابتعد عنها قليلًا، وتناول كوبه، فارتشف منه جرعة قبل أن يشعل سيجارته ويفكر بصوتٍ مرتفع:
-طيب اعمل إيه ما هي بنت المقرفة دي بتستفزني، مابستحملش وبلاقي نفسي بتعصب عليها!
مدت فيفي يديها نحو ظهره، وبدأت تحرك أناملها بحركات لطيفة مدروسة، بينما انساب صوتها بنبرة أنثوية مفعمة بالإغواء والخطورة:
-لازم يا طلال تهدي بالك معاها، وتضحك عليها بمعاملتك الحلوة وده مش في موقف ولا اتنين، لا شوية كده، لغاية متأمنلك، تقوم تقولها على مشروعك وإنك محتاج تاخد قرض باسم الشقة ووقتها زي ما اتفقنا تمضيها على عقد تنازل ليك من غير ما هي تعرف وبعدها تطردها برة حياتك خالص.
ساد الصمت لبرهة، إذ أخذ طلال يفكر في الخطة المحكمة التي نسجتها فيفي، لكنه كان رجلًا سريع الانفعال، وغالبًا ما كان تهوره يفسد مثل هذه الخطط، إلا أن صوت فيفي تسلل إليه مجددًا، خفيضًا، فاحمًا، ينضح مكراً أشبه بفحيح الأفاعي السامة:
-مش بعيد تلاقي مراتك مخبية فلوس من وراك، لازم تأمنلك وتقشطها صح يا طلال، اسمع مني هتاكل الشهد.
لانت ملامحه الصارمة، وهو يحدق بها كما يحدق الكلب بسيده، لاهثًا تحت تأثير نعومتها وغنجها، وما إن غاص معها في المحرمات، حتى نسي دينه وأخلاقه، كما نجحت المخدرات التي دستها له فيفي بين شفتيه في أن تفقده عقله تمامًا، ليغدو كل شيء حوله زائفًا… مزيفًا كحياته التي اختارها بيديه.
****
عاد طلال إلى منزله مع اقتراب شروق الشمس، يتسلل بخطوات حذرة، وعيناه تتلفتان يمينًا ويسارًا كأنما يخشى أن يلمحه أحد فيفسد مزاجه العالي، لقد نجحت فيفي في إسعاده الليلة، مما جعله يغرق في مزاج رائق لا يريد أن يعكره شيء.
سكن المنزل في هدوء تام، ولم يكن هناك صوت سوى أنفاسه المتلاحقة، التفت نحو غرفة أطفاله، فوجد الباب ما زال مغلقًا، مما يعني أنهم لا يزالون نائمين، فهو أبٌ لثلاثة أطفال، عمر الأكبر بينهم، يليه مالك ذو السبعة أعوام، ثم ياسين الذي لم يتجاوز الخامسة بعد.
تابع طريقه إلى غرفته بخطوات خافتة، وحين دخل وجد زوجته نهلة غارقة في نوم عميق، تأمل ملامحها الشاحبة للحظات، ثم توجه إلى خزانته، يخلع ثيابه بصمت ويضعها ببطء شديد، كأنما يخشى أن يوقظها، لكن عينيه سرعان ما وقعتا على حقيبة نهلة السوداء، تلك التي اعتادت أن تخبئ فيها المال، تقدم نحوها بحذر، فتحها ببطء، فوجدها فارغة، زم شفتيه بضيق، وهم بإعادتها إلى مكانها، إلا أن عيناه التقطتا شيئًا يتساقط من أسفلها.
مال نحو الأرض والتقط الأوراق النقدية، ابتسامة خبيثة ارتسمت على شفتيه، وعيناه تلمعان بمكرٍ شيطاني، كاد أن يخفي المال في جيبه، لكن فجأة دوى صوت فيفي في رأسه، كناقوسٍ يقرع بإصرار، ذكرته بتنبيهاتها، بأفكارها التي وصفها دومًا بالحكيمة، بنظرتها الثاقبة التي تنير دربه، حتى لو لم يكن يرغب بذلك، شعر بصداع خفيف جراء صراع أفكاره، لكنه سرعان ما حسم أمره، قرر ألا يخرج عن خطتهما، فأعاد المال إلى مكانه، ثم اقترب من نهلة، يلمس كتفها برفق.
استجابت بأنين خافت، ثم انتفضت في فزع، وقد اعتراها الارتباك، وهمست بصوت ناعس متقطع:
-نعم يا طلال، اقوم احضرلك الأكل؟
كان صوتها مرهقًا، وجسدها يتصبب عرقًا رغم دوران المروحة البطيء فوقها.
أجابها بصوتٍ هادئ مصطنع اللطف:
-لا يا نهول، أنا كنت بطمن عليكي بس.
-أنا عمري ما اتكلمت معاك لما بتاخد مني فلوس، بس الصبح الفلوس دي كنت محوشاها عشان اروح اكشف واشوف مالي تعبانة ليه. ابتسم بسخرية، كاشفًا عن أسنانه الصفراء الباهتة، ثم قال بتهكم: -انتي المفروض تبديني عن نفسك، انتي هتتحاسبي على كده يا محترمة يا اللي مش عارفة دينك كويس! امال أنا سايبك تشتغلي ليه؟! روحي في داهية انتي وعيالك الغم. زفر بضيق وهو يخرج سيجارته، يشعلها ببطء، ثم ينفث دخانها في الهواء، قبل أن يقول بلهجة صارمة جعلت صغيره يضع يديه على أذنيه بقوة، خشية قسوة صوته: -ماتديش لابنك فلوس تاني يا نهلة، ده آخر تحذير ليكي وليهم، وانت يالا لو شوفتك بتلعب تاني بلاي ستيشن هتضرب، فاهم ولا لا؟! ثم استدار وغادر الغرفة بخطوات متعالية، كأنه طاووس يسير مزهوًا بنفسه، تاركًا خلفه جوًا خانقًا من الغضب والكره، بينما كانت أعين الأم وابنها تتابعان رحيله بامتعاض شديد. فور مغادرته، رفع عمر نظره إلى والدته، وعيناه تلتمعان بقهر دفين، قبل أن يقول بصوت مرتجف، مشحون بالغضب المكبوت: -انتي اللي بتصرفي علينا، وشايلة البيت فوق راسك، إيه لاذمته غير إن هو بيضربنا ومعيشنا عيشة تقرف؟! زمت نهلة شفتيها، وحركت رأسها نفيًا، محاولة أن تخفف من حدة كلماته التي وجدت طريقها مباشرة إلى قلبها: -لا يا عمر أبوك بردو له لزمة يابني، ومش هتعرف قيمته غير لما تكبر. نظر إليها عمر بجمود، وكأن جملتها تلك كانت القشة التي أفاضت كأسه الممتلئ بالقهر، ثم اندفع مبتعدًا عنها، وعيناه تحملان ذات النظرة التي يرمق بها والده دائمًا، نظرة خالية من أي حب أو تقدير، بل فقط خليط من الغضب والاستياء: -لا يا ماما أنا عمري ما هعرف قيمته صدقيني، ولو فضلتي تقولي كلامك ده، أنا بردو