محاكمة عَمَتِي

المحتويات
اصطفت السيارات أمام المسجد في انتظار وصول الجثمان، تجمعت بعض النساء بجوار إحدى السيارات يتذكرن مواقفهن معها، ولا يصدقن أنها كانت بصحبتهن منذ أيام، والآن ينتظرن وداعها للمرة الأخيرة، من يصدق أن ناهد ماتت؟ّ!
كانت امرأة قوية ظن البعض أنها أقوى من الموت ذاته، شديدة ومبهرة، طيلة حياتها تحملت أشياءً صعبة، ربما لم يكن لدى الكثير من الرجال القدرة على تحملها، تتمسك بالحياة وتحبها رغم مرضها الشديد، حتى المرض نفسه لم يقدر عليها، فكيف تموت فجأة هكذا بسكتة قلبية مفاجئة.
ينظرن إلى نعشها الذي أتى في سيارة نقل الموتى بدلًا من سيارتها الفارهة التي كانت تتباهى بها، يتحسرن على غدر الدنيا التي لا تستمر على حال، ويذهبن خلف الجثمان للحاق به داخل المسجد مع بعض الصرخات والدموع.
كان هو على الجهة الأخرى يجلس شاردًا، يستقبل المُعزين بوجه خالٍ من الملامح، بعضهم من يشفق عليه، فهي كانت آخر شخص تبقى من عائلته، وبعضهم من يحسده، فبعد أيامٍ قليلة سيصبح مليونيرًا، ويرث تَرِكة عمته “ناهد” التي لم يتبقى لها وريث غيره أيضًا، بضعة أيام وسينسى أحزانه وينساها ويعيش حياة الأثرياء.
اقترب منه رجلان، أحدهما كان يحمل جثمانًا صغيرًا يبدو لرضيع، والآخر كان عامل المسجد، أشار له إليه ثم اصرف، دنى منه الرجل بعيون باكية وهو يحاول أن يبدو متماسكًا:
– أستأذن بس حضرتك تسمح بدفن الرضيع ده مع المرحومة تاخدوا الثواب وتتونس بيه.
نظر له بتلك النظرة الخالية من الملامح وأجابه دون تردد:
– لأ؛ مينفعش.
اندهش الرجل، وبدأ بإعادة الطلب مرة أخرى:
– حضرتك ده رضيع، وهيبقى ثواب صدقني، المقابر بتاعتنا بعيد وأمه تعبانة وأنا محتاج أكون…
نهض من مكانه بعد أن قاطع الرجل بحدة:
– لأ… حرام؛ حرام تسيب ابنك معاها،
انت متعرفش هي صعبة إزاي، ولا تعرف ممكن تعمل في ابنك إيه…
ثم خفض صوته وهو يقترب من أُذن الرجل ليهمس بها:
– دي شيطانة، ومتستاهلش الثواب ده.
انصرف الرجل بعيدًا، وما هي إلا لحظات وأتى جثمان آخر احتضن الرضيع، بينما كان جثمان “ناهد” ينتظر الصلاة عليه، اصطف المُصلين لصلاة الظُهر، وبعدها صلاة الجنازة على الجثامين، وقف في الصف الأول وانتهى من الصلاة، ثم حمل الجثمان بمشاركة بعض بعض أصدقاؤه، انتهت مراسم الدفن لكنه كان يجلس بعيدًا، لم يقم بالدعاء للمرأة التي كانت آخر من يتبقى في عائلته، انطلق بسيارته لمنزله، أو منزلها الذي أصبح منزله الآن، كل شيء أصبح ملكًا له، ألقى بجسده على الفراش وزفر بضيق:
– ياااااه يا عمتي، آخيرًا عملتيها… مع ألف سلامة.
أغمض عينيه براحة وحاول أن يغفو قليلًا، لكنه لم يستطع، فقد تذكر ماضيه مع هذه العائلة، وما فعلته تلك المرأة من أفعال دمرت حياته، خصوصا في سنواتها الأخيرة، كانت تدرك أنه ينتظر موتها، لذلك لم تكن العلاقة بينهما على وفاق تام، كان الجميع يظن أنهما يعيشان معًا في تلك الشِقة كأم وولدها، لكن كان يحمل لها بداخله كراهية مستترة، ويعيش معها تحت سقف واحد رغم كل شيء.
سمع فجأة صوت يعرفه جيدًا من خارج الغرفة، إنه صوت سُعال اعتاد على سماعه طوال سنوات من حياته، هل كان يحلم؟
لم تَمُت عمته وكان كل ما مر به خلال اليوم مجرد حُلم!
نهض من الفراش متوجهًا ناحية غرفة الاستقبال، تلك الغرفة التي كانت مقرًا لها في سنواتها الأخيرة، تجلس بجوار النافذة تدخن “النارجيلة” وتظل تَسعل بشدة حتى تحمر وجنتيها، لكنها لم تكف عن التدخين أبدًا، حتى بعد أن نصحها الطبيب بخطر التدخين على صحتها، كانت تتحداه وتخبره أنها ستتوقف فقط عند وفاتها، وبما أنها تسعل الآن فهي بالتأكيد لم تَمُت، لكنه لم يجد أحدًا بالغرفة، فقط كان مقعدها فارغًا وبجواره النارجيلة وحيدة، وقف مشدوهًا قليلًا، لا أحد هنا، فمن الذي كان يسعل، عاد للفراش مرة أخرى محاولًا طمأنة نفسه بأنه اعتاد أن يسمع صوتها لسنوات عديدة، لذلك لا داعي للقلق، حاول النوم من جديد لكنه رغمًا عنه تذًّكر ناهد وحياته معها.
كانت حياته عبارة عن مثلث يعيش بين أضلاعه الثلاث، والده، والدته وعمته، وبسبب الأخيرة كانت الحياة بين والده ووالدته أشبه بالجحيم، فقد كانت ناهد هي الأخت الكبرى لسراج والد أحمد، وهم ما تبقيا من خمسة إخوة توفوا جميعًا في طفولتهم، فتلك العائلة عرف عن أبناءها أنهم لا يعيشون كثيرًا ويغادرون الحياة في سن صغيرة لأسباب مختلفة، لذلك عزفت ناهد عن الزواج حتى لا تضطر لإنجاب أطفال يتحسر قلبها عليهم، أو تترك الدنيا وتتركهم فيها يعانون من مصاعب الحياة، لكن سراج اتخذ طريقًا مختلفًا فبعد أن أتم العشرون من عمره التحق بوظيفة وتزوج فتاة من خارج تلك العائلة، حتى يضمن بنسبة كبيرة أن تنجب له طفلًا واحدًا يكون اسمه أحمد ويعيش طويلًا، تحققت أمنية سراج وزف له الطبيب يوم ولادة زوجته بأن المولود ذكرًا فاعتبرها نبوءة، وذهب لوالده يخبره بأنه أنجب طفلًا سيخلد اسم عائلته، سيكون صاحب النسل الأكبر والأوحد، كبر أحمد وكان مدللا للغاية، لم يكن طفلًا كباقي الأطفال في مثل عمره، فكان يخشى عليه والده من اللعب مع أبناء الجيران والاختلاط بهم، وترى والدته أنها أنجبت ملكًا سيتم تتويجه على عرش مُلك هذه العائلة، أما ناهد ترى أنه هدية القدر لها ولعائلتها، لذلك كان يجب أن يكون ولدًا صالحًا ووريثًا مسؤولًا عن كل هذه الأموال التي ستؤول له في يوم ما، تجلس وتتحدث معه بأحاديث لا يفهمها عقله الصغير، وتحكي له القصص والحكايات وتشاهد معه البرامج، مع وعد بنزهة أسبوعية في حال لو انتهى من استذكار دروسه وحصل على درجات ترضيها، تعلق أحمد بعمته كان يثير حفيظة ليلى فكانت دائمة الشجار مع سراج وفي بعض الأحيان تلقي ببعض الكلمات الجارحة في وجه ناهد عن العنوسة وعدم الإنجاب، وتخبرها أن أحمد لن يصبح ابنًا لها مهما فعلت، كانت طفولته عبارة عن نزاع على شخصه، حتى أصبح مراهقًا فبدأت شخصيته في التغير، أصبح أكثر تمردا، وبدأت أعراض الدلال الجانبية والإتفاق تبدو على شخصيته. فلم يعجب هذا ناهد وبدأت تتدخل في تربيته بشكل لم يرضيه فهي تريد كبح جناح تمرده، في بعض الأحيان كانت تحاول التحدث إليه كما كانت تفعل في طفولته فكان يزداد نفورًا، فلم تكن تجد وسيلة سوى تحريض سراج على تقويمه فيبدأ بدوره بالشجار مع زوجته واتهامها بأنها أفرطت في تدليه.
أما ليلى رغم كل اللوم الذي تتلقاه تشعر بالراحة، فقد وجدت مدخلًا جديدًا تحاول من خلاله إبعاد ناهد عن حياتهم، وبدأت في تشيجع ابنها على تمرده عليها، وتخبره أنها لا تريد سوى مصلحته على عكس تلك العمة التي لم تحبه يومًا، بل أنها تحقد عليه لأنه سيصبح وريثًا للعائلة ولن تنال سوى الفتات، لذلك فهي أخطر عدو له… واقتنع أحمد.
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة