بريد الجمعة

المحتويات
في أحد أيام شهر أغسطس التي تركت فيها الشمس كل مهامها تقريبا وتفرغت الي صب جام غضبها على سكان مدينة القاهرة في نهار قائظ الحرارة دفع الجميع حتي الذباب الي الهرب من الشوارع والبحث عن أي سنتيمتر مربع من الظل ليحتمي فيه من اشعة الشمس بحيث اصبح الخروج من المنزل في مثل هذا التوقيت مغامرة غير مأمونة العواقب. لم تشذ وفاء السيدة الثلاثينية ذات الملامح الهادئة الجميلة التي ترتدي ملابس بيتية انيقة عن القاعدة واحتمت بسقف منزلها يقيها هجير الشمس في مثل هذا التوقيت من النهار هي وسبع ذبابات نجحن في التسلل للصالة. كانت وفاء تجوب صالة بيتها ذهابا وإيابا مستغرقة في التفكير استغراقا جعلها تغفل عن مشاركة الذباب لصالة بيتها والتي لو كانت الظروف عادية لما استطاعت ان تستقر في مكانها قبل ان تطردهم شر طرده من المنزل ولكن ما جعلها تغفل وجود الذباب في عقر دارها ما يدور في عقلها من أفكار تتصارع دون هوادة. لحظات ويبدو على ملامح وفاء انها حسمت امرها وتوصلت الي قرار نهائي لما يعتمل في فكرها وما قض مضجعها وهي التي كانت تفضل السهر طول الليل والنوم طوال النهار حتى لا تشعر بالحر فوقتها لم تكن التكييفات قد انتشرت كما هي الان ولم يكن هناك مصدر لتقليل وطأة الحر سوي المراوح التي تصل لمرحلة انها تجتر هواء الغرفة وتعيد ارساله الي وجهك بنفس درجة حرارته ورطوبته عند حد ما معين. ما ان تحسم وفاء امرها وترددها حتى تجلس مسرعة الي مائدة السفرة وكأنها تخشي ان تغير رأيها بينما يقبع امامها ورقة من أوراق الخطابات المزخرفة وقلم فتنكب تكتب في هذه الورقة وهي تحادث
نفسها بما تكتبه في صوت خافت كأنها تخشي ان تنسي شيئا مما ستسرده في خطابها بينما نقترب من يدها لنري ما تكتبه
عزيزي محرر باب بريد الجمعة ترددت كثيرا وانا اكتب رسالتي لك فما حدث اثار حيرتي فعلا المشكلة التي انا بصدد الحديث لك عنها ليست مشكلتي انا ولكنها مشكلة صديقتي
ترفع وفاء نظرها عن الورقة وكأنها تحاول تذكر ما حدث تحريا للدقة فتتذكر وجه دعاء وهي سيدة في اوائل الثلاثينات من العمر وهي تبكي وتستند على كتف وفاء بينما تقول دعاء وسط دموعها الغزيرة
انا خلاص ماعنتش مستحملة الحياة دي
تجيبها وفاء في رفق بينما تربت على ظهرها مظهرة تعاطفها
لازم تستحملي عشان الولاد
ينتفض خالد الرجل الاربعيني صاحب الملامح الغليظة والشارب الكث والوجه الحليق والشعر القصير واقفا وكأنما مسه تيارا كهربائيا وهو يصيح في حنق بالغ
شايف بتقول ايه خلاص حياتنا ماعدتش عاجباها
تنظر له وفاء بعنين متسعة تعض بأسنانها شفتها السفلي محذرة قبل ان تنقل بصرها الي عادل الرجل الاربعيني الجالس معهم وهي تشير بعينيها له ليتدخل يلتقط منها خالد طرف الخيط ليصيح محاولا تهدئة الأوضاع قائلا
ده كلام ساعة غضب يا خالد ما تقفش على الواحدة هو ايه اللي حصل؟
انا كنت داخل البيت تعبان من الشغل بقولها
تقاطعه دعاء وسط دموعها
والله ما سمعت انا كنت في المطبخ
يقاطعها عادل في حزم قائلا
استني يا دعاء سبيه يخلص كلامه وبعدين هاييجي دورك …. كمل يا خالد
يظهر الضجر واضحا علي ملامح خالد فيردف مسرعا منهيا الحوار في سأم
المهم انا كنت بنادي عليها ماردتش
وفاء مازالت في جلستها تخط بقلمها خطابا مطولا لصاحب باب بريد الجمعة في الجريدة الرسمية التي تتابعها قبل ان ترفع عينيها محدقة في الفراغ وكأنها تحاول استجماع شتات ذاكرتها محاولة إيصال الصورة كاملة قبل ان يتغير كل ما حول وفاء لينقلب الي صالة طعام اكتظ فيها عددا من رواد المطعم يجلسون الي موائده او هكذا كانت تتذكر وفاء بينما نري
رجلا يجلس معطيا ظهره لها وقد امسك بيد امرأة اخري وهو ينظر نحوها في هيام واضح وقد انهمكا في حديث هامس باسم بينما تعبر وفاء من باب المطعم وتتجه نحو أحد الموائد لتجلس عليها ولكنها تتجمد حين تلمح هذا الرجل انه خالد يجلس الي أحد النساء غير مدرك لما يحدث فتقف مترددة قليلا مبهوتة قبل ان تقرر الانصراف سريعا. تستدير لتخرج فيقابلها الجارسون قائلا وهو يشير نحو أحد الموائد الفارغة
اتفضلي حضرتك هنا
تتجمد وفاء لثوان شاعرة بالاحراج وقد احمرت وجناتها قبل ان تتنحنح قائلة وهي تحاول استجماع شجاعتها
حاضر … ثواني … أصلي نسيت حاجة في العربية
تغادر وفاء المطعم مسرعة وكأن شيطانا ما يطاردها بينما تتلاشي ملامح المطعم من حولنا لنعود الي وفاء الجالسة الي مائدة السفرة في منزلها تخط بيديها ما حدث تتوقف قليلا لتتذكر قبل ان تعاود الكتابة تتوقف عن الكتابة مفكرة وهي تضع طرف القلم في شفتيها تضغط علي مؤخرته بأسنانها في حركة لا ارادية لتستجمع افكارها بينما تلتفت عبر تجاويف منمنمات زخارف خشب كرسي السفرة المقابل لتبصر نفسها جالسة في الانتريه تشاهد التلفزيون في ملل قبل ان يرن الجرس فتقوم لتفتح الباب. ومن فوق كتفها نجد دعاء تقف امام الباب فيرتسم علي ملامحها شعورا بالذنب واضحا لا تخطئه العين وكأنها هي من كانت تقابل عادل في المطعم بينما تبادرها دعاء قائلة وهي تقترب منها لتحتضنها
فوفه ازيك يا حبيبتي عاملة ايه انا جاية اقعد معاكي شوية؟
تجيبها وفاء في انزعاج لا تدرك انه قلة ذوق الا عندما يكون الأوان قد فات
ليه هو حصل حاجة؟
لا تنتبه دعاء لكل ما يعتمل في صدر صاحبتها فتجيبها في بساطة
لا كنت زهقانة قلت اعدي عليكي ارغي معاكي شوية
تنتبه وفاء الي ان دعاء مازلت واقفة على باب الشقة فتدعوها للدخول بحرارة مبالغ فيها
طاب اتفضلي طيب انتي هاتفضلي واقفة كده؟
تدخل دعاء من الباب وتتجه نحو الأنتريه لتجلس عليه بينما تتابعها وفاء بنظرها وقد بدا
عليها عدم الارتياح قبل ان تتجه وفاء نحو المطبخ قائلة
ارتاحي من السلم ثواني وجاية
تحاول دعاء ان تثنيها عما تعتزم صائحة
مالوش لزوم ماتتعبيش نفسك انا جاية اقعد معاكي شوية وماشية على طول
تجيبها وفاء في بساطة
مفيش تعب دي حاجة بسيطة عشان الجو حر
تدخل وفاء المطبخ لتستند بظهرها الي احدي حوائطه وقد تعالت نبضات قلبها في صخب صم اذنها عن كل الأصوات دون ان تدري كيف ستتصرف بينما يتعاظم بداخلها صوتا يصرخ بها
اقولها ولا ما أقوللهاش؟ والله انا محتارة مش عارفة اتصرف ازاي؟
تعود وفاء بصينية عليها كأسين مملوئين بمشروب غازي لتضعهم على ترابيزة الانتريه ثم تجلس بجوار دعاء
تلتقط وفاء احد الكأسين وتقدمه لدعاء مبتسمة في ود حقيقي امتزج بشفقة قليلة الحيلة عاجزة
اتفضلي
ميرسي
تلتقط وفاء الكأس الثاني لترشف منه رشفة ثم تقول بلهجة من يدعو سرا بداخله ان يخيب الله ظنه
ها يا ستي موضوع ايه اللي كنتي جاية تقولي عليه؟
تحبس وفاء أنفاسها في انتظار رد صديقتها التي لا تستغرق ثانية لترد ولكن مرت هذه الثانية دهرا علي وفاء بينما تجيب دعاء في بساطة قائلة
هه؟ لا مفيش اصل انا وعادل احتمال ننزل بورسعيد الاسبوع الجاي فكنت جاية اشوفك عايزة حاجة من هناك ولا لأ؟
تتنفس وفاء الصعداء حامدة الله في سرها ان تأجلت المواجهة المحتومة لبرهة من الزمن قد يعطيها هذا التأجيل فرصة لكي تحسم امرها قبل ان تجيب بابتسامة مشرقة
ربنا يخليكي في حاجات عايزاها هاقولك عليها بس اعرف رأي خالد الاول بس طمنيني الأول انتوا اخباركوا ايه مع بعض اليومين دول؟
الحمد لله بقينا بنبعد عن نقط الخلاف مابينا واهي الحياة ماشية
ربنا يهديكوا لبعض
تقضي الاثنتان بعض الوقت في بعض الأحاديث قبل ان تنصرف دعاء الي بيتها وقد شحنت طاقتها الإيجابية لكي تتحمل أياما اخري في كنف زوجها رغم تفاقم المشاكل بينهم بينما وفي نفس الليلة وفي حجرة نومها يتمدد عادل في سريره متأهبا لينام بعد يوم عمل طويل بينما تقترب وفاء من مرآة تسريحة ضخمة تحتل جانبا كبيرا من أحد حوائط غرفة النوم لتمشط شعرها تأهبا لأن تنام هي الأخرى. كانت وفاء ساهمة تفكر وتستكمل حديثا لم تكن متأكدة تماما هل نطقت به ام انه لم يكن يدور سوي في عقلها
وجت ومشيت وماقدرتش اصارحها باللي شفته
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة