كريم كرامل

المحتويات
انتهت سمر من إعداد أطباق الحلوى التي تُبرِع في صنعها، وهي “الكريم كراميل”، ثم وضعتها في حقيبة كبيرة خصصتها خصيصًا للأطباق الصغيرة، بعد ذلك، استعدت للنزول إلى عربتها ذات اللون الأزرق المبهج، التي قامت بطلائها بنفسها على مدار يومين، تحملت خلالهما استهزاء والدتها بها في كل مرة تراها جالسة في بهو المنزل تطلي العربة بدقة شديدة، حتى بعدما انتهت منها منذ ثمانية أشهر وبدأت مشروعها الصغير في بيع أطباق “الكريم كراميل”، لم ينتهِ استهزاؤها بها، ولم تتوقف نظرات الاستياء التي تتلقاها دومًا، معبرة عن عدم رضاها بذلك المشروع.
وقبل أن تضع “سمر” قدمها خارج الشقة، سمعت والدتها تخرج من غرفتها، تصيح بصوت عالٍ وغضب عارم:
-سمر، أنتي رايحة فين؟!
التفتت “سمر” إليها بنظرة ضيق مكتوم وهي تشير إلى الحقيبة الكبيرة:
-هكون رايحة فين يا ماما نازلة اشوف شغلي!
شهقت والدتها “أمل” شهقة قوية، ووضعت يديها على خصرها:
-شغل!! شغل إيه يا أم شغل، أنتي المفروض تتكسفي من شغلك ده يابت!.
زفرت “سمر” بضيق، وهي تدرك مسبقًا بداية الحوار ونهايته، فقالت بهدوء:
-يا ماما هو كل يوم من ده، ما أنا بقالي ٨ شهور بشتغل، يعني ماتعودتيش!!
-اتعودت على إيه على الهم والقرف، ما أنتي لو بتسمعي كلامي كان زمانك حالك أحسن، مبسوطة يعني لما كل بنات المنطقة اتجوزت وانتي لا، مبسوطة بشغلك المعفن ده، ما أنا جبتلك تشتغلي مرة في صيدلية مارضتيش، ومرة في معمل مارضتيش، ومرة في…..
قاطعتها سمر، وقد بدا الضيق واضحًا على وجهها المستدير:
-خلاص يا ماما، عارفة والله بس أنا مش عايزة، أنا بحب اعمل الحاجة اللي بحبها.
شهقت مجددًا “أمل” بسخرية لاذعة:
-الحاجة اللي بتحبيها، أنتي ناوية تجلطيني يا بت أنتي، هي اطباق الكريم كرامل دي حاجة عليها
القيمة!! طب تصدقي أهل المنطقة بيشتروا منك، عشان خاطري أنا، مش راضيين يكسفوكي.
ارتسمت على شفتي “سمر” ابتسامة تهكم، وهي ترد:
-اه صحيح فعلاً، عشان كده كل يوم بيشتروا مني، وبيخلصوا الاطباق اللي عملتها وبطلع أعمل منها تاني.
-بتتريقي عليا يا سمر، دي أخرة تريبيتي فيكي!!
وأثناء استرسال والدتها في النواح وإظهار استيائها الذي لم ولن ينتهي إلا عندما تغلق سمر تلك العربة، شعرت باهتزاز هاتفها في جيب سروالها الواسع، معلنًا عن تعجُل “محمود” لها، ليأكل طبقه المفضل قبل ذهابه إلى عمله، حيث يعمل مهندسًا في إحدى الشركات الكبرى.
شعرت بيدين توضعان على كتفيها، فالتفتت لتجد “أم محسن”، جارتهم التي جاءت كعادتها كل يوم لتتسامر مع والدتها وتحتسي معها الشاي، كانت تلك فرصتها الذهبية للفرار من الشجار اليومي.
-أهلاً، أهلاً يا طنط، اتفضلي يا حبيبتي، يلا عن إذنكم.
ثم فرت هاربة إلى الأسفل، تزفر براحة كبيرة بعد تخلصها من الشجار اليومي، وما يطمئنها أكثر أن والدتها منشغلة حاليًا مع جارتها، ما يعني أنها لن تخرج إلى الشرفة لمراقبتها، مما يتيح لها فرصة الحديث مع “محمود” قليلًا قبل ذهابه إلى عمله.
خرجت من بوابة المنزل، ثم رفعت رأسها تنظر إلى شرفتهم في الطابق الثاني، وما إن رأتها مغلقة، تنهدت بارتياح، ثم تحركت صوب عربتها الصغيرة ذات اللون الأزرق، والتي تزينها النجوم البيضاء المتناثرة في كل الجهات، أما الأضواء اللامعة المبهجة، فقد وضعها محمود بعناية، حيث تتدلى منها وتمنحها شكلًا جميلًا وجذابًا، حتى أن أطفال المنطقة يقفون بجانبها لالتقاط الصور مع أطباق الحلوى المفضلة لديهم!
انتهت من رص الأطباق داخل العربة بحماس لا ينتهي أبدًا، هنا تكمن سعادتها وملاذها الأول والأخير، لقد عاشت أعوامًا من الاكتئاب بعد انتهائها من دراستها، حيث حصلت على شهادة جامعية من كلية الآداب قسم التاريخ، ومنذ ذلك الحين، جلست في المنزل بلا عمل، لا تفعل شيئًا سوى الشجار مع والدتها، التي لم تكف يومًا عن مضايقتها، لكنها، رغم كل شيء تتفهم طبيعة شخصيتها الحادة والصارمة، وتدرك أنه لا أحد يتقبلها بسهولة، ولا يجيد التصرف معها سوى هي و”أم محسن” جارتها، التي اعتادت أن تتحمل الإهانة منها.
-يا صباح الكريم كرامل.
انتبهت من شرودها اللحظي على وقوف “محمود” مستندًا بجسده إلى الحائط القابع بجواره، فابتسمت بحب.
-صباح النور.
ثم أخرجت “سمر” حقيبة صغيرة، وضعت فيها طبق الحلوى ومعه طعامًا آخر، قائلة بخجل:
-عملتلك الأكل بتاعك، عشان ماتكلش برة وبطنك تتعبك زي كل مرة!!
نظر إليها “محمود” بحب، ثم همس بنبرة يغمرها الإعجاب:
-أنا كل يوم بحمد ربنا على وجودك في حياتي، أنا أه أمي ميتة بس انتي عوضتيني بكل حاجة.
ابتسمت “سمر” بخجل، ثم نظرت إليه بمزاح:
-يعني أنت دلوقتي بتعتبرني مامتك!!
شقت ابتسامة جذابة وجهه وهو يردف تزامنًا مع العد على أصابعه:
-حبيبتي وأمي وأختي وصاحبتي وكل حاجة في دنيتي، سمر أنا بحمد ربنا على اللحظة اللي قررت أنا وابويا ننزل فيها من السعودية من سنة ونص ونستقر هنا.
قد يعجبك ايضا
متابعة القراءة