طعنة في الظل
فتحت عينيها ببطء، تحمل نظرتها دهشة غير مستوعبة، وكأنها تتأكد من أنه بالفعل يقف أمامها، همست باستنكارٍ خافت:
-بتطمن عليا أنا؟!
مرر كفه على خصلاتها البنية الناعمة، ونطق بنبرة زائفة تخفي بغضه العميق لها:
-اه يا نهول هو أنا عندي كام نهلة، هو انتي لسه تعبانة؟
ارتجفت قليلًا وهي تلتقط نظراته المتفحصة، إحساس غامض بالخطر بدأ يزحف نحوها، لكن ابتسامته الوادعة ونبرته الهادئة كانا كفيلين بطمأنتها مؤقتًا، أجابت بتحفظ:
-الحمد لله.
تنهد طلال وكأنه يشعر بتأنيب الضمير، ثم قال بنبرة متأسفة:
-متزعليش مني، لو كنت زعلتك الصبح واخدت الفلوس بتاعتك، بس كان في واحد ابن **** معايا في الشغل عايز فلوس مني كنت استلفتها منه، بس خلاص خلصت منه.
رمقته بنظرة متفحصة قبل أن تهمس بلطف:
-خلاص حصل خير، والحمد لله إنك خلصت منه!
أطرق رأسه، ثم رفع عينيه إليها مجددًا، وكأنه يصارع داخله إحساسًا بالذنب، وقال:
-بس أنا شايل ذنبك يا نهلة، كنت من وقت ما مشيت بلف بحاول استلف فلوس عشان اوديكي تعملي تحاليل واشاعات في المستشفى اللي أنا شغال فيها، بس مفيش حد راضي.
اتسعت عيناها دهشة، ونطقت بصوتٍ خافت يحمل مزيجًا من المفاجأة والامتنان:
-انت بتلف عشان خاطري أنا يا طلال؟!
-اه طبعًا هو أنا عندي كام نهلة، ده أنتي أم العيال، ده أنا حتى سألت فيفي آآآ…..ممرضة معايا في المستشفى زميلة يعني، قالتلي يا طلال هات ٧٠٠ او ٨٠٠ جنية وانا هعملها التحاليل والاشاعات في المستشفى عندنا، بس للاسف ماعرفتش.
أطرقت نهلة للحظة، ثم قالت بخجل:
-أنا معايا فلوس، آآ…ولاء صاحبتي ادتني فلوس الصبح سلف عشان اكشف، أنا كنت هرجعهم بس طالما زميلتك دي بتقول إنها هتعملهم وعندكوا في المستشفى، أنا ممكن ابقى اديهم لولاء بعد كده من مرتب الشهر اللي
بدا الفرح على وجه طلال وهو يهتف:
-بجد طب حلو فرجت اوووي، كمان ساعتين او تلاتة نقوم نروح انا وانتي لمدام فيفي تعملك التحاليل والاشاعات ولما يطلعوا نبقى نشوف هنروح نكشف عند مين؟
-وماله يا أخويا انت ادرى مني طبعًا، أنا معاك في أي حاجة.
وضع كفه فوق يدها وربت عليها برقة زائفة، قبل أن يهمس بخبث مدفون خلف قناع الاهتمام:
-ربنا يطمنا عليكي يا نهلة، أصل أنا خايف عليكي اوي!
رفعت عينيها إليه، وابتسمت رغم إحساسها الغريب الذي لم تستطع تفسيره، ثم همست:
-خايف عليا أنا؟
انتفضت في موضعها، ونظرت إليه بريبة:
-اه طبعًا، هو أنا والعيال نسوى إيه من غيرك، يلا كملي نوم، وأنا هعمل السندوتشات للعيال بتاعت المدرسة.
انتفضت في موضعها، ونظرت إليه بريبة:
-انت يا طلال هتعمل سندوتشات العيال؟!
أومأ برأسه بثقة:
-اه يا نهلة انتي تعبانة اووي مش شايفة نفسك، نامي يا حبيبتي.
راقبته للحظة، ثم استسلمت للنعاس مجددًا، لكنها لم تستطع إيقاف عقلها عن العمل، يبحث عن تفسير لهذا التغير المفاجئ، هل استُجيب دعاؤها أخيرًا؟ هل حقًا تغير طلال فجأة وأصبح إنسانًا آخر؟!
بينما هي غارقة في أفكارها، كان طلال قد توجه إلى المطبخ، والتقط هاتفه ليجري اتصالًا سريعًا، وما إن أجابت فيفي، حتى أخبرها بنجاح خطتهما، مما جعلها تنفجر ضاحكة، ساخرة من سذاجة نهلة وغبائها الذي يسهل استغلاله.
****
بعد مرور يومين…
كانت نهلة جالسة في إحدى زوايا المصنع، تحيط بها آلات ضخمة تعمل بلا توقف، بينما هي وحدها متوقفة عن كل شيء، حتى أنفاسها بدت وكأنها تخرج بثقل وكأنها عبء على صدرها المتهالك، كانت تبكي بحرقة، ودموعها تنهمر دون توقف، تسيل على وجنتيها اللتين شحبتا كأن الدم هجرهما، وعيناها تحدقان في الفراغ بلا وعي، عقلها كان شاردًا، تائهًا في دوامة سوداء، لا تجد فيها سبيلًا للنجاة، لا طوقًا تتشبث به في وجه العاصفة التي اجتاحت حياتها دون سابق إنذار.
كانت كلمات زميلة طلال في المستشفى ما تزال ترن في أذنها، كأنها صدى يتكرر بلا نهاية، يذكرها بالحقيقة القاتلة التي لا مهرب منها، نظرت إليها الممرضة بحزن، وهي تضع يدها فوق يدها المرتجفة، ثم أخبرتها بصوتٍ خافتٍ، يكاد يتهدج تحت وطأة الشفقة:
-للأسف التحاليل والاشاعات نتيجتهم أثبتت أنك مريضة سرطان الدم، الله يكون في عونك يا حبيبتي، والمصيبة إنك في المرحلة الأخيرة!
عندها شعرت وكأن قلبها توقف للحظات، وكأن الهواء انقطع عن رئتيها، وكأن الأرض تميد بها فلا تدري أين تثبت قدميها، لم تسمع سوى تلك الكلمات الأخيرة تتردد في رأسها، تدور كدوامة لا نهاية لها، تفتت جدار الأمل الذي حاولت أن تتشبث به.
مريضة… سرطان… الدم… المراحل الأخيرة…
هل هذه نهايتها؟ هل اقترب موعد وداعها للحياة؟ للحلم؟ لأطفالها؟!
تملكها الذعر، وشعرت بألمٍ يخترق روحها لا جسدها، فالموت لم يكن يخيفها بقدر ما كان يفزعها المصير الذي سيواجهه أطفالها بعدها، مَن سيرعاهم؟ مَن سيمسح دموعهم حين يبكون؟ من سيعد لهم طعامهم في الصباح؟ من سيغطيهم ليلًا حين ينامون؟!
شعرت وكأن الكون كله ضاق عليها، وكأن كل شيء حولها يبتعد، ولم يبقَ سوى صوت الموت يقترب منها بخطى ثابتة، بلا رحمة، بلا انتظار.
اقتربت ولاء من نهلة بعدما ابتعدت عنها لدقائق، عائدة إليها وهي تحمل في يدها كيسًا ورقيًا صغيرًا وكوبًا من العصير المثلج، كانت أنفاسها لاهثة، وكأنها استعجلت العودة إليها، ثم قالت بلهجة يغلبها الاهتمام:
-خدي يا بت يا نهلة، جبتلك سندوتشين من على عربية الفلافل اللي على أول الشارع، زي ما بتحبيها.
رفعت نهلة عينيها إليها بفتور، ثم أبعدت الطعام بضيق، وقد ضاقت ذرعًا بإصرار ولاء على إطعامها، وكأن مشكلاتها وهمومها ستنتهي بوجبة طعام!
-قولتلك مش عايزة يا ولاء، أنا مش قادرة احط اللقمة في بوقي من وقت ما عرفت.
تنهدت ولاء بحزن، وأحاط صوتها بالعجز أمام ما أصاب صديقتها فجأة، ثم قالت بمحاولة لثنيها عن استسلامها:
-ما هو ماينفعش ماتكليش يا حبيبتي، لازم تشدي حيلك وكمان نشوف دكتور كويس تتابعي معاه…
قاطعتها نهلة بحدة، نابعة من عمق الألم الذي ينهشها:
-لا طبعًا أنا لا يمكن اروح واصرف فلوس على علاج وأنا عارفة إن مفيش منه فايدة، أنا لازم اوفر كل قرش لعيالي.
نظرت إليها ولاء بصدمة واستنكار، وقد بدا على وجهها الامتعاض مما تسمعه:
-وانتي؟!
ابتسمت نهلة بتهكم أليم، يحمل في طياته مرارة مذاقها كأنها تجرعت العلقم:
-عادي أنا كده كده ميتة!
رفعت ولاء يدها إلى صدرها وضربته بغيظ، قبل أن تهمس بانفعال تحاول ضبطه:
-نهلة ماتضايقنيش ياختي، انتي خلاص صدقتي على كلام جوزك وحتة الممرضة دي، مانروح لدكتور ونشوف رأيه في الموضوع ده! يمكن عنده علاج، احنا بردو جهلة ومانعرفش في الطب.
رمقتها نهلة بنظرة تحمل استسلامًا ساخرًا، ثم قالت بنبرة خافتة أشبه بالهزء من حالها:
-واللي شاغلة في المستشفى ليل ونهار بتقولي خلاص مفيش علاج ينفعني، ولاء وفري كلامك لنفسك، أنا هوفر كل قرش لعيالي، اعيش يوم اعيش سنة اعيش سنتين كل بإيد ربنا، المهم اسيب لعيالي أي حاجة يتسندوا عليها، هما غلابة ولا أهل نافعين ولا أب نافعهم.
فتحت عينيها ببطء، تحمل نظرتها دهشة غير مستوعبة، وكأنها تتأكد من أنه بالفعل يقف أمامها، همست باستنكارٍ خافت: -بتطمن عليا أنا؟! مرر كفه على خصلاتها البنية الناعمة، ونطق بنبرة زائفة تخفي بغضه العميق لها: -اه يا نهول هو أنا عندي كام نهلة، هو انتي لسه تعبانة؟ ارتجفت قليلًا وهي تلتقط نظراته المتفحصة، إحساس غامض بالخطر بدأ يزحف نحوها، لكن ابتسامته الوادعة ونبرته الهادئة كانا كفيلين بطمأنتها مؤقتًا، أجابت بتحفظ: -الحمد لله. تنهد طلال وكأنه يشعر بتأنيب الضمير، ثم قال بنبرة متأسفة: -متزعليش مني، لو كنت زعلتك الصبح واخدت الفلوس بتاعتك، بس كان في واحد ابن **** معايا في الشغل عايز فلوس مني كنت استلفتها منه، بس خلاص خلصت منه. رمقته بنظرة متفحصة قبل أن تهمس بلطف: -خلاص حصل خير، والحمد لله إنك خلصت منه! أطرق رأسه، ثم رفع عينيه إليها مجددًا، وكأنه يصارع داخله إحساسًا بالذنب، وقال: -بس أنا شايل ذنبك يا نهلة، كنت من وقت ما مشيت بلف بحاول استلف فلوس عشان اوديكي تعملي تحاليل واشاعات في المستشفى اللي أنا شغال فيها، بس مفيش حد راضي. اتسعت عيناها دهشة، ونطقت بصوتٍ خافت يحمل مزيجًا من المفاجأة والامتنان: -انت بتلف عشان خاطري أنا يا طلال؟! -اه طبعًا هو أنا عندي كام نهلة، ده أنتي أم العيال، ده أنا حتى سألت فيفي آآآ…..ممرضة معايا في المستشفى زميلة يعني، قالتلي يا طلال هات ٧٠٠ او ٨٠٠ جنية وانا هعملها التحاليل والاشاعات في المستشفى عندنا، بس للاسف ماعرفتش. أطرقت نهلة للحظة، ثم قالت بخجل: -أنا معايا فلوس، آآ…ولاء صاحبتي ادتني فلوس الصبح سلف عشان اكشف، أنا كنت هرجعهم بس طالما زميلتك دي بتقول إنها هتعملهم وعندكوا في المستشفى، أنا ممكن ابقى اديهم لولاء بعد كده من مرتب الشهر اللي
