ثمن الشهرة
أغلقت تسنيم البث فجأة، جذبت هاتفها وحقيبتها الصغيرة الفاخرة، وخرجت من غرفتها بخطواتٍ غاضبة، يفضحها صوت كعبها الحاد وهو يضرب الأرضية الصلبة.
حاولت والدتها إيقافها، لكنها رفضت الوقوف أو الاستماع لأي عتابٍ تعلم أنها لن تتقبله.
وقررت السهر مع أصدقائها في إحدى النوادي الشهيرة لأبناء المجتمع الراقي، محاولةً الهروب من الغضب المتزايد الذي يلتهمها من الداخل.
****
تصاعدت الأغاني الصاخبة في النادي، وتجمهر بعض الشباب في ساحة الرقص يتمايلون على نغمات الموسيقى الشعبية الحادة، بينما الراقصة تقف في مكانٍ عالٍ، تتمايل بنعومة وغنج كأفعى تتراقص على لحن مزمار ساحر، في زاوية أخرى من النادي، جلست مجموعة من الفتيات حول طاولة أنيقة، يتناولن طعامهن بالشوكة والسكين، وكأنهن في وليمة ملكية لا تتناسب مع الأجواء الصاخبة من حولهن.
نفثت تسنيم دخان “الڤيب” بطعم الكراميل، بينما شردت بنظراتها بعيدًا، كأنها تحاول الهروب من ضجيج المكان وضجيج أفكارها، استفزت ملامحها الغارقة في التفكير صديقاتها، فتقدمت إحداهن بملامح تتراقص عليها السخرية، وقالت:
-زعلانة ليه يا نيمو؟ حال اللايف واقف برضو؟
رفعت تسنيم عينيها بحدة، نظرتها صارمة وصوتها حاد كالسكين:
-تريقة مش عايزة، عشان مزعلكيش!
ابتلعت الفتاة سخريتها وابتسمت بلطفٍ مصطنع، قائلة بنبرة مُتوددة:
-مش قصدي يا بيبي والله، أنا بس زعلانة أوي عشانك.
تدخلت أخرى بابتسامة زائفة، كأنها تُلقي بملحٍ على الجرح:
-يا نيمو، احنا كلنا زعلانين عليكي، والصراحة شايفينك غلطانة من أول الموضوع.
انعقد حاجبا تسنيم بعدم فهم، نظرتها تتنقل بين الوجوه الملتفة حولها كأنها تبحث عن خيط يُفسر هذا الهجوم المُبطن، حتى بادرتها إحداهن:
-انتي كنتي مكسرة الدنيا في السوشيال ميديا، ليه دخلتي بنت خالتك السهتانة دي؟ أهي سحبت البساط من تحت رجلك.
تسلل الضيق إلى قلبها كأفعى تُحيط بفريستها، رمقتهن بنظرةٍ حارقة قبل أن تنهض بشموخٍ أثار
خلفها لحقت بها ليلو، تحاول إيقافها:
-إيه! انتي كمان عايزة تقوليلك كلمتين من نفسك؟
هزت ليلو رأسها سريعًا، وكحلت عينيها السوداوين بالدهشة والاستنكار، قائلة:
لا طبعًا! بس أنا مش قادرة أفهم لغاية دلوقتي عملتي ليه كده مع البت اللي اسمها يارا دي وانتي مش بتطيقها!
تألقت عينا تسنيم ببريق مُريب، خليط من الغيرة والحقد، ظهر بوضوح في عمق نظرتها:
-مكنتش متخيلة إنها هتسحب الجو مني، البت دي أصلاً حتة بت ساذجة، ماتخيلتش إن ليها تأثير قوي كده.
أومأت ليلو بتفهم مزيف، لكنها استدركت:
-أيوه، بس ليه أصلاً دخلتيها المجال ده؟ ما كنتي سيبتيها بين الأربع حيطان وتحكمات جوزها.
ابتسمت تسنيم ابتسامة مصطنعة، تُخفي خلفها رغبة عارمة في الانتقام من ابنة خالتها رغم بؤسها:
-متضايقة منها ومن سذاجتها، بتسمع الكلام كده على طول وعمرها ما قالت لا، وجوزها على طول شايفها حاجة كبيرة معرفش على إيه… تتصوري بيعاملها على أنها جوهرة، وأنا بيعاملني كأني حشرة وحشة! حبيت أعرفه مدى تأثيري عليها، واللي هو شايفه جوهرة في ثانية ممكن تبقى زيي عادي.
كانت تسنيم تستمد قوتها من ضعف يارا، بل وتتغذى على آلامها وأحزانها، لم تدرك أبدًا أنها مريضة وتحتاج إلى تدخل نفسي عاجل، والأسوأ من ذلك، أنها ترى نفسها في مكانة أعلى من البشر، تُعاملهم باحتقار حتى أقرب صديقاتها، ليلو التي كانت تتحمل معاملتها القاسية من أجل مكانة زائفة ووهج الشهرة الذي تُضفيه عليها صداقتها بتسنيم.
تنهدت ليلو بضيق، محاولة الخروج من هذا النفق المظلم الذي تسحبها إليه صديقتها دومًا:
-طيب دلوقتي انتي بوظتي الدنيا أوي في اللايف، ولازم نشوف حل سريع نحل بيه اللي حصل ده، أنا متأكدة أن فيديو شتيمتك للواد هيطلع في الاكسبلور دلوقتي.
حكت تسنيم أنفها بخفة، رفعت “الڤيب” إلى شفتيها، ثم قالت بهمسٍ شيطاني وبسمةٍ ساخرة:
كلمي الواد عبد الله واديله الأوردر باللي كنت قايلة عليه، وبكرة مصر كلها هتنسى مشكلتي، وهتركز مع حد تاني.
كانت كلماتها تُلقى كالحجارة في ماءٍ راكد، تُثير الفوضى وتنتظر أن تُغرق السفينة بمن فيها، تُحرك الخيوط كدمية بارعة لا تعبأ بما سيحدث بعد ذلك.
*****
بعد مرور عدة أيام.
استيقظ عمر على رنين هاتفه المتواصل بعد أن قرر أخذ إجازة لعدة أيام، فلم يكن قادرًا على مواجهة زملائه أو رؤية التشفي والتعاطف في أعينهم، وخاصة أن شعور المغفل شعور قاسٍ وموجع.
حتى عائلته ابتعد عنها كي لا يسمع كلمات قد تزيد من شعوره بالغضب، فقد كان يكفيه ما يتذوقه من خذلان بعدما تخلت عنه زوجته وحبيبة عمره في لحظة، وهدمت حياتهما من أجل أمور غير لائقة ومرفوضة.
بحث بين جنبات عقله عن سبب فعلتها الحمقاء، فلم يجد تقصيرًا من جانبه؛ متطلباتها جميعها مجابة، وقلبه يكتفي بها وعيناه لا ترى امرأة غيرها، يعاملها كأنها ابنته وليست زوجته، إذا لِمَ تهدم حياتهما بهذا الشكل من أجل سراب لن تجني منه سوى الهلاك!
بعد إلحاح الاتصالات المتكررة من أخته الوحيدة نجلاء، قرر الرد أخيرًا:
-أيوه؟
جاءه صوتها المفعم بعدم الرضا:
-انت فين يا عمر؟ وليه مابتردش علينا؟
تنهد بثقل وهو يفرك عينيه:
-عادي… مشغول شوية.
-إيه المصيبة اللي يارا وقعت نفسها فيها دي؟!
ظن أنها تقصد أمر البث المباشر، فأجاب بفتور وهو يخفي الضجيج الذي كاد يقسمه نصفين:
-عارف يا نجلاء، مالوش لزمة الكلام، مش عايز حد يكلمني في الموضوع.
-يعني عادي عندك الكلام والفيديوهات اللي نازلة لمراتك دلوقتي على الفيس والتيك توك؟
توقف للحظة، ثم قال بشك ودقات قلبه تتزايد بجنون حتى كادت تخترق ضلوع صدره:
-فيديوهات إيه؟
أجابت بصوت ممتزج بالقلق والسخط:
-بيقولوا يارا كانت في حفلة عاملها داعم اسمه أبو طلال في فيلته، المهم إن في جزمة كانت لابساها قبل كده ظهرت ورا أبو طلال ده في اللايف، والناس كلها ربطت إنها نامت عنده والكلام القذر نازل عليها، ومراتك طلعت في لايف تعيط وتقول إنها ما راحتش ولا حضرت أصلاً، بس الناس مكدبينها وفي ناس كانوا في الحفلة دي قالوا شافوها.
تجمدت ملامحه في لحظة، وكأن الزمن توقف حوله، بينما انهالت عليه كلمات أخته كالصواعق، تفتك بكيانه دون رحمة، شعر وكأن الأرض قد انشقت من تحته، وأن الهواء قد صار ثقيلاً لا يُطاق، عيناه تحدقان في الفراغ وكأنهما تبحثان عن مخرج من هذا الكابوس.
أغلق الاتصال في وجهها وفتح الإنترنت بسرعة ليشاهد المقاطع المصورة المنشودة، والصدمة تشل عقله عن استيعاب فداحة الأمر، تسارعت دقات قلبه وكأنها تريد أن تثقب صدره، وهو يشاهد بكاءها وقسمها بأنها لم تحضر تلك الحفلة، رفض عقله تصديق ما سمعه، وكأن أذنيه قد خانتاه.
*
كانت يارا تشاهد المقاطع المصورة المنتشرة بكثرة على كل المنصات، وتتساقط الكلمات على مسامعها كحبات بردٍ قاسية، كل حرفٍ منها يترك في قلبها ندبةً لا تُمحى، شعرت بأن العالم قد انقلب رأسًا على عقب، وأن الأرض التي كانت ثابتة تحت قدميها قد تحولت إلى رمالٍ متحركة تبتلعها ببطء.
وصل إليها صوت طرقٍ عنيف على باب الشقة، ثم صدح صوت زوجها يخترق الأجواء وهو يصيح باسمها عاليًا:
-يــــــــــــــــــارا!
انتفضت بذعر، وتراجعت في فراشها أكثر وهي تبكي بانهيار، وأثناء صياحه باسمها، تداخلت أصوات خالتها وتسنيم باعتراضهما عليه ومنعه مما يريد فعله، بل وصل الأمر إلى طرده، لكنه لم يتزحزح من مكانه.
تحرك إلى حيث تقع غرفتها وفتح مقبض الباب بقوة، فظهرت أمامه فوق فراشها، ودموعها المنسابة على وجهها ترسم ملامح الانكسار، نطقت ببكاء، ترجوه أن يصدقها:
-والله يا عمر ما رحت… اسأل خالتو وتسنيم، ده كله كدب!
اقترب منها بعنف، فكانت حركته أشبه بالثور الهائج:
-والله! مش ده أبو طلال يا يــــــــــارا اللي كان بيدعمك محبة، أنا عرفت نوع المحبة دلوقتي!!
هزت رأسها نفيًا بعنف وهي تبكي وتردف بانكسار:
-ما تجيش عليا انت كمان يا عمر عشان خاطري، أنا يارا مراتك، لا يمكن أعمل كده.
قالت خالتها باحتقار، ولم يظهر عليها أي تأثر من الفضيحة التي لاحقت ابنة أختها التي في مقام ابنتها:
-انتي بتبرري لمين؟ ده واحد ما يستاهلش أصلاً يا يارا.
تجاهلت يارا حديث خالتها لأول مرة، وتمسكت بطرف ثياب عمر تقول برجاء:
-عمر والله أنا مظلومة، انت عارفني كويس، دي حملة معمولة ضدي.
حقرت تسنيم منها وهي تقول ساخرة:
-مش أوي كده يا يارا! فكك من جو المؤامرات ده.
كلماتها السامة لم تُصب عقل يارا الملكوم، لكنها استطاعت اختراق أعماق أفكار عمر المظلمة، اهتز جسده اهتزازًا طفيفًا، وكأن الريح قد عصفت بكيانه، عاجزًا عن الحركة أو الرد لفترة قصيرة، ثم نجح في فك أسر لسانه وقال بصوت جامد يخلو من الحياة:
-انتي طالق.
غامت الرؤية أمام عينيها، وكأن ستارًا من الضباب قد حجب عنها نور الحقيقة، حاولت أن تستجمع شتات عقلها، لكن الأفكار تتطاير كالرماد، حتى سقطت مغشيًا عليها في دوامة الظلم.
***
خلت والدة تسنيم إلى غرفة ابنتها بخطوات مترددة، وقد لف وجهها شحوب القلق وغضب مكتوم، كانت الغرفة أشبه بعالم منفصل؛ جدرانها مغطاة بملصقات نجوم البوب، والموسيقى الصاخبة تتغلغل في الأركان، فتبعث الحياة في الجمادات، لكنها كانت تزيد الأم ضيقًا.
جلست تسنيم على فراشها الوثير، متكئة بظهرها على كومة من الوسائد المزخرفة، وأصابعها تتحرك بخفة على أظافرها وهي تضع طبقة لامعة من طلاء الأظافر الأحمر، تمضغ العلكة بكسل، وتنفث دخان الڤيب في الهواء بعبث، تاركة دوامات دخانية تتلاشى ببطء.
وقفت والدتها على عتبة الباب، نظرتها تحمل مزيجًا من الحيرة والاستياء، ظلت صامتة لبرهة، تراقب ابنتها التي بدت وكأنها في عالم آخر، غير مكترثة بما أحدثته من فوضى في حياة الآخرين.
وأخيرًا، نطقت الأم بصوت خافت لكنه مليء بالحدة المكبوتة:
-ليه عملتي كده؟
لم ترفع تسنيم عينيها على الفور؛ وكأن السؤال لم يكن موجهًا إليها، بعد لحظة، رفعت بصرها ببرود، وكأنها تُخرج والدتها من خلفية المشهد إلى الواجهة:
-عملت إيه؟
انعقد حاجبا الأم، واكتسى وجهها بظل من الغضب، تقدمت خطوة إلى الأمام وقالت بنبرة مشحونة:
-قصدك إيه من الحملة دي؟ بوظتي كل حاجة على يارا.
ابتسمت تسنيم ابتسامة جانبية، لا تخلو من السخرية، ثم ردت بتسلية وكأن الحديث يدور حول قصة تافهة لا أكثر:
-أنا مابوظتش حاجة!! مالك يا ماما؟
شعرت الأم بأن ابنتها تتلاعب بها، فزفرت بقوة، وكأنها تحاول إخراج الغضب المتكدس في صدرها:
-مالي إن أنا فاهمة كويس إنك السبب في الحملة دي، عشان يارا كلت منك الجو، بس يا متخلفة، كنتي سيبيها شوية، دي كانت جايبة دعم كويس أوي وإعلانات كبيرة وتقيلة.
اهتز جسد تسنيم من شدة الضحك، وكأنها تسمع نكتة طريفة، ثم نظرت إلى والدتها بجرأة متحدية، وعينيها تلمعان بمزيج من الدهاء والبرود:
-أيوه، قولي كده! إنتي متضايقة عشان الدعم هيتسحب منها، صح؟
بدت الأم للحظة كأنها كُشفت أمام مرآة الحقيقة، هوأزاحت خصلات شعرها البيضاء المتناثرة خلف أذنها بتوتر ظاهر، وحاولت تعديل نبرة صوتها لتبدو أكثر هدوءًا:
-مش القصد يا تسنيم… يعني أنا بقول إنك كنتي تسيبيها طالما الدعم شغال معاها حلو، وخصوصًا إنه اتسحب منك الفترة دي وراحت عليكي.
تبدلت ملامح تسنيم سريعًا من التسلية إلى الجدية، ورفعت أحد حاجبيها باعتراض، ثم أشارت إلى نفسها بإصبعها كأنها تذكر والدتها بمَن تكون:
-أنا اللي بعمل أي حد، وفي إيدي أطلعها السما وأنزلها الأرض.
تقدمت نحو والدتها بخطوات بطيئة وثابتة، وكأنها تفرض هيمنتها على المكان:
-وبعدين ما تقلقيش، إنتي مش كنتي عايزة تطلقيها من الواد اللي اسمه عمر عشان مش عاجبك؟ أهو، اديني عملتهالك!
تراقصت الظلال على وجه الأم، وكأنها غير قادرة على تحديد مشاعرها بين الرضا والقلق، لكن تسنيم لم تترك لها مجالًا للتفكير، فتابعت بثقة مطلقة:
-وبعدين كلها أيام، وكلنا هنبقى تريند مصر، وكله هيرجع يتعاطف معاها تاني، وأنا بردو أرجع لمكانتي زي الأول.
ثم عادت إلى فراشها، وكأن الحديث لم يكن سوى فاصل قصير في يومها الروتيني. أمسكت بالفيب، ونفثت سحابة أخرى من الدخان، بينما الموسيقى الصاخبة تعود لتغمر المكان، وكأنها تطمس كل ما قيل قبل لحظات.
*****
مرت أيام ثقيلة على عمر، وكأن الزمن قد قرر أن يتوقف في محطة الألم، كل يومٍ يشبه سابقه؛ صباحٌ باهت يبدأه بالذهاب إلى عمله، حيث يتحرك بجسده فقط بينما روحه تظل عالقة في متاهة الأسئلة والشكوك.
يجلس خلف مكتبه بين الأوراق والمعاملات، لكنه لا يقرأ شيئًا، ولا يتحدث مع أحد، كل نظرة من زملائه تُشعره بوخزة في صدره؛ بين عيونٍ تشفق عليه وأخرى تتلذذ بمأساته، تمنى لو يستطيع الاختفاء تمامًا، أن يصبح شفافًا لا يُرى ولا يُسمع.
عند المساء، يعود إلى شقته الصغيرة التي أصبحت أشبه بزنزانة انفرادية، يُغلق الباب خلفه بإحكام، وكأنه يسد الطريق أمام العالم الخارجي كي لا يتسلل إلى وحدته، يجلس في ركنٍ من الغرفة، الأضواء خافتة والظلال تتراقص على الجدران كأشباحٍ تلاحقه، ينزوي بعيدًا عن عيون البشر المتطفلة، تلك التي لا تتركه أينما ذهب.
الأثاث البسيط في الشقة بدا كئيبًا، كأنما تشرب الحزن من صاحبها، طاولة القهوة عليها أكواب نصف ممتلئة القهوة الباردة، ووسائد الأريكة غير مرتبة، ونافذة صغيرة بالكاد تسمح بمرور الضوء، لكنها لم تعد تُفتح، وكأن النور لم يعد مرحبًا به هنا.
في هذه الوحدة الموحشة، راح عمر يعيد ترتيب أحداث حياته، يحاول فهم كيف تحولت زوجته، حبيبة عمره، إلى طعنة غدرٍ مزقت قلبه.
ورغم كل شيء، كان جزءٌ من قلبه لا يزال يصدقها، أو ربما كان يتمنى أن يكون كل هذا كابوسًا سيصحو منه قريبًا، لكنه كان يعلم أيضًا أن إيقاظها من وهم الشهرة كان ضروريًا، حتى لو كان الثمن فراقًا مؤلمًا وضياعًا للثقة بينهما.
وفجأة، قطع الصمت طرقات عنيفة على باب شقته، انتفض من مكانه، نظر إلى الباب بخوفٍ وتردد، وكأن الطرقات تأتي من عالمٍ آخر، اقترب بخطوات متثاقلة، فتح الباب بحذر، وما إن فعل حتى رأى يارا أمامه.
كانت ملامحها مشوهة بالبكاء، وجهها شاحب وعيناها محمرتان، وملابسها غير مرتبة وكأنها خرجت مهرولة دون وعي، مدت يديها نحوه، وكلماتها خرجت متقطعة، محملة بوجعٍ لا يُحتمل:
-رودي اتخطفت يا عمر.
لم تصل الكلمات إلى عقله في البداية، وكأن أذنيه أغلقتا على الحقيقة المروعة، تحدق عيناه في وجهها، محاولًا إيجاد معنى لما قالته، لكنه لم يستوعب سوى الصدمة.
-انتي بتقولي إيه؟
-كانت في النادي مع الناني بتاعت خالتو وفجأة اختفت… بنتي ضاعت مني.
جملتها الأخيرة انهارت معه الجدران التي بناها حول قلبه لحمايته، رأى في عينيها الخوف الحقيقي، الخوف الذي لا يمكن تمثيله ولا ادعاؤه، لم تعد أمامه المرأة التي اعتقد أنها خانته، بل عادت له يارا التي عرفها يومًا؛ أم طفلتهما، وتوأم روحه التي ضاعت في زحمة الدنيا.
تراجعت خطواتها إلى الخلف، وكأنها فقدت القدرة على الوقوف، واندفعت إلى صدره، تبكي بانهيارٍ حتى كادت تفقد وعيها، احتضنها بشدة، يشعر ببرودة جسدها ورعشة يديها، بينما دموعها تبلل كتفه، وصوت نحيبها يمزق السكون من حولهما.
في تلك اللحظة، اختفت كل الاتهامات والشكوك، ولم يبقَ سوى ألمٍ مشترك وحبٍ جريح، وطفلة ضائعة في مكانٍ مجهول.
****
رت أربعة أيام ثقيلة وكأنها دهور، ولا تزال الصغيرة رودي مفقودة، كل دقيقة تمر كانت تثقل كاهل يارا وعمر، وكأن الزمن نفسه يتلذذ بتعذيبهما. عيون يارا باتت غارقة في ظلال زرقاء، وجسدها الهزيل صار يترنح تحت وطأة السهر والبكاء. لم تعد تقوى على الحديث، وكأن كلماتها جفت في حلقها.
أما عمر، فقد صار جسده حاضرًا وعقله شاردًا، تتنقل نظراته بين الهاتف والباب، وكأن طفلتهم قد تظهر فجأة من العدم.
الشرطة كانت تأتي وتذهب، تحيطهم بأسئلة لا تُجدي، ووعودٍ لا تُسمن ولا تُغني من جوع، كل عمليات البحث باءت بالفشل، وكل الخيوط التي أمسكوا بها انتهت إلى طريقٍ مسدود، كانت الغرفة الضيقة في قسم الشرطة تضيق بأنفاسهم، ورائحة السجائر والعرق تملأ الأجواء، تزيد من اختناقهم وكأنها تضيف ثقلًا فوق أثقالهم.
وفي الجانب الآخر، كانت تسنيم تعيش في عالمٍ موازٍ، وكأن الحدث لم يمسها إلا بقدر ما يتيح لها استغلاله، وجدت في تلك المأساة فرصة ذهبية لصناعة المحتوى، فتوالت بثوثها المباشرة عبر المنصات الاجتماعية، تظهر أمام الكاميرا بوجهٍ مصطنع الحزن، عيناها متلألئتان بالدموع المصطنعة، وصوتها مبحوحٌ بعناية:
-ساعدونا… بنت أختي لسة مفقودة… رودي لازم ترجع!
تلك المشاهد كانت تُبث على مدار الساعة، حتى أن بعض المقاطع أظهرت انهيار يارا الحقيقي، بكاءها وارتجافها، وقد تسللت كاميرا تسنيم خلسة لتوثق الألم الحقيقي وتقدمه للعالم كوجبة ترفيهية، صار الجميع يتابع الفيديوهات بجنون، تتوالى التعليقات والمشاركات، وتعاظم التعاطف مع “الخالة المكلومة” التي لم تتوانَ عن فعل أي شيء في سبيل دعم العائلة… أو هكذا صورت نفسها.
عندما وصل أحد تلك الفيديوهات إلى عمر، شعر وكأن شيئًا يتفجر داخله، قبضته اشتدت على هاتفه، وعيناه اتسعتا بدهشة مشوبة بالريبة، كيف يمكن لتسنيم أن تظهر بهذا الهدوء المصطنع وسط كل هذا الجحيم؟ كيف لها أن تستغل دموع يارا وتوظفها لكسب التعاطف والمتابعين؟
شيءٌ مظلمٌ بدأ يتحرك في عقله، كأنه خيطٌ من دخان الشك، ينفث سمومه داخل رأسه، هل يُعقل أن تكون يارا شريكة في هذا الاستعراض البشع؟ هل يمكن أن تكون قد اختارت الشهرة حتى وإن كان الثمن هو طفلتهما؟
وبينما أفكاره تتصارع كأمواجٍ عاتية، جاءه اتصال من رقمٍ غريب، ارتجفت يده وهو يرد بسرعة، وكأن بصيص الأمل المنتظر قد وصل أخيرًا:
-ألو؟
وصل إلى مسامعه صوت صغيرته رودي، كان صوتها مثل نسمة دافئة وسط عاصفة ثلجية، بعثت الحياة في قلبه الميت:
-بابا، انتوا فين؟ انت ومامي هتيجوا تاخدوني إمتى؟
انفرجت أساريره للحظة، وكأن الضوء اخترق الظلام:
-انتي فين يا رودي؟
-عند طنط ليلو صاحبة خالتو تسنيم، هي ودتني عندها عشان انتوا مسافرين؟
غرقت ملامحه بين الدهشة والغضب، وانفجر عقله بالأسئلة:
-يعني خالتو تسنيم هي اللي أخدتك من النادي ووديتك عند صاحبتها؟
-أيوة، هتيجوا إمتى بقى؟ أنا زهقت… طنط ليلو بتسيبني كتير وتمشي وما بتخلينيش أكلم مامي، استنيت لما هي نامت وفتحت تليفونها من وراها ببصمة وشها.
كانت الكلمات تخرج من فمها البريء كطلقات نارية، تصيب قلبه وعقله في آنٍ واحد، شعر بجسده يتصبب عرقًا، يده ترتجف بقوة، وعيناه تبرقان بنظرةٍ حادة مليئة باليقين الممزوج بالغضب.
استعاد عمر رباطة جأشه سريعًا، وكأن غريزة الأبوة استيقظت فيه فجأة، تذكر جرأة تسنيم وتبجحها، فأدار خاصية التسجيل على هاتفه، وسأل ابنته مجددًا.
-يا حبيبتي، تعرفي انتي فين بالظبط؟ قصدي العنوان.
وببراءة الأطفال، نفت الصغيرة معرفتها المكان.
أنهى الاتصال وهو يشعر بأن قلبه يشتعل بنيرانٍ لا تُطفأ.
أخذ نفسًا عميقًا، ثم اتجه نحو الباب، وكأنه يودع الظلام الذي عاش فيه طوال الأيام الماضية، لن يسمح لأحدٍ بعد الآن بأن يعبث بحياته، ولن يدع لدموع يارا مكانًا بين الأضواء الكاذبة.
أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بالشرطة، وصوته يخرج صارمًا لا يعرف الرحمة:
-عرفت مكان بنتي…
في تلك اللحظة، لم يعد عمر الرجل المكسور الذي انهار أمام أوجاعه، بل صار أسدًا يزأر، مستعدًا لاقتناص حقه وحماية صغيرته مهما كلفه الأمر.
***
قفت يارا في منتصف الغرفة الضيقة بقسم الشرطة، وقد تسمرت قدماها على الأرض الباردة كأنها جذورٌ نبتت في تربة الألم، عيناها الواسعتان تتأرجحان بين الصدمة والحزن، وهالةٌ من التعب تكلل وجهها الشاحب، الهواء في الغرفة ثقيل، كأن جدرانها تتنفس معها، وتضيق الخناق على صدرها.
أمامها، كانت تسنيم تجلس ببرود على الكرسي المعدني، تسند ظهرها إلى الحائط، تداعب أطراف أظافرها وكأنها في جلسة عادية، لا في مواجهة تُهمٍ خطيرة، عيناها تتحركان بكسل، تلتقيان بنظرة يارا المذهولة دون أن ترمش، وكأن كل ما يحدث مجرد مشهدٍ في مسلسلٍ سخيف.
-ليه يا تسنيم؟ ليه تعملي فيا كده؟
خرج صوت يارا مبحوحًا، وكأنه شق طريقه بين أشواك الألم، انعكست في صوتها نغمة الاستعطاف الممزوجة بخيبةٍ عميقة.
أجابت تسنيم ببرودٍ مخيف، ونبرة مفرغة من الحياة:
-أنا كنت بساعدك ترجعي لجوزك، ومكنتيش هترجعيله إلا كده.
الجمود في صوتها كان كفيلًا بزيادة حرارة الغرفة، وكأن الكلمات تحولت إلى شفرات حادة تقطع في قلب يارا.
لم تنتظر والدة تسنيم طويلًا، فقد تقدمت خطوة نحو يارا، وجهها يحمل مزيجًا من التوسل والمكر:
-شوفتي نيتها سليمة أهو! ظلمتي بنت خالتك يا يارا… خلي جوزك يتنازل عن المحضر!
كانت الكلمات تتطاير من فمها كالرصاص، لكن رصاصها لم يصب هدفه، فقد بدت يارا وكأنها صارت محصنة ضد كل هذا التلاعب.
-أنا اللي ظلمت نفسي كتير لما سمعت كلامكم ودمرت حياتي.
خرجت كلماتها وكأنها اعتراف أمام محكمة نفسها، كل حرفٍ كان يُسقط عنها طبقةً من الذنب، ويكشف عن ندوبٍ تركتها الأيام الماضية على روحها.
لكن والدة تسنيم لم تستسلم، رفعت ذقنها بتعالي، ونظرة الكره التي لم تستطع إخفاءها انسكبت من عينيها كحقدٍ مسموم:
-شوفتي اللي أحسنتي ليها بتعض الإيد اللي تمدت لها.
أزاحت يارا وجهها بعيدًا عنها، وكأنها تحمي نفسها من نفثات السم الزاحف من كلماتها، لكن تسنيم لم تستطع الصمت طويلًا، فرفعت يدها بحركة عصبية، وصرخت:
-اسكتي يا ماما!
ثم التفتت إلى يارا وقالت بنبرة تمزج بين الرجاء والتهديد:
-يارا، اسمعي كلامي، ما تخليش جوزك يأفور ويتنازل عن المحضر، يا أما مالكيش فلوس عندي، وكل فلوس الدعم…
لم تُكمل جملتها، فقد قطعت يارا حديثها بصرخةٍ خرجت من أعماقها، مزقت سكون الغرفة وكأنها سهمٌ أصاب الهدف في مقتل:
-مش عايزة الفلوس دي! دي نقمة مش نعمة! خديهم وابعدي عني وعن حياتي، انتي وبنتك المؤذية!
ترددت كلماتها في المكان، كأن الجدران ذاتها استحسنت الحقيقة التي نطقت بها، وصدى الصوت ارتد عليها، يعزز قوتها ويؤكد قرارها.
استدارت يارا تغادر المكان، خطواتها سريعة لكنها مثقلة بالوجع، وكأنها تفر من سجنٍ عاشت فيه طويلًا، خلفها بقيت تسنيم ووالدتها، وقد تلاشى الغرور من ملامحهما، وحل محله خوفٌ حقيقي من العواقب التي باتت تقترب منهما بخطى ثابتة.
في الخارج، كان عمر يقف بجوار سيارته، الهاتف في يده، عيناه تتابعان الشريط الإخباري على الشاشة الصغيرة، كان قد سرب تسجيلات التحقيق إلى أحد الصحفيين، وانتشرت المقاطع كالنار في الهشيم، تعجبت مواقع التواصل الاجتماعي من حجم المؤامرة وتبدلت الآراء، فانقلبت تعليقات الناس من الشك في يارا إلى التعاطف معها، ومن دعم تسنيم إلى مهاجمتها بشراسة.
أغلق الهاتف ببطء، وتوجه نحو يارا التي توقفت على الرصيف، عيناها تبحثان عنه وسط الزحام.
-عمر… أنا آسفة… عشان خاطر رودي، سامحني.
لمعت في عينيها دموعٌ صادقة، كل قطرة منها تحمل وزنًا من الندم. كانت ملامحها تعبر عن انكسارٍ حقيقي، لكنها أيضًا تحمل بريقًا من الأمل، أملٌ في الصفح، أملٌ في بداية جديدة.
تنهد عمر بعمق، وكأن الهواء البارد يحمل معه بعضًا من حدة غضبه:
-عرفتي دلوقتي تمن شهرتك كان هيبقى إيه لولا ستر ربنا؟
هزت رأسها ببطء، وكأنها تُقر أمامه وأمام نفسها بأنها أخطأت.
-عرفت… وتعلمت الأدب خلاص.
اقترب منها، ولمس كتفها برفق، وكأن لمسته تحمل غفرانًا بسيطًا، ونظرة في عينيه تقول إن الطريق إلى التصالح طويل، لكنه ليس مستحيلًا.
تمت بحمد الله.
أغلقت تسنيم البث فجأة، جذبت هاتفها وحقيبتها الصغيرة الفاخرة، وخرجت من غرفتها بخطواتٍ غاضبة، يفضحها صوت كعبها الحاد وهو يضرب الأرضية الصلبة. حاولت والدتها إيقافها، لكنها رفضت الوقوف أو الاستماع لأي عتابٍ تعلم أنها لن تتقبله. وقررت السهر مع أصدقائها في إحدى النوادي الشهيرة لأبناء المجتمع الراقي، محاولةً الهروب من الغضب المتزايد الذي يلتهمها من الداخل. **** تصاعدت الأغاني الصاخبة في النادي، وتجمهر بعض الشباب في ساحة الرقص يتمايلون على نغمات الموسيقى الشعبية الحادة، بينما الراقصة تقف في مكانٍ عالٍ، تتمايل بنعومة وغنج كأفعى تتراقص على لحن مزمار ساحر، في زاوية أخرى من النادي، جلست مجموعة من الفتيات حول طاولة أنيقة، يتناولن طعامهن بالشوكة والسكين، وكأنهن في وليمة ملكية لا تتناسب مع الأجواء الصاخبة من حولهن. نفثت تسنيم دخان “الڤيب” بطعم الكراميل، بينما شردت بنظراتها بعيدًا، كأنها تحاول الهروب من ضجيج المكان وضجيج أفكارها، استفزت ملامحها الغارقة في التفكير صديقاتها، فتقدمت إحداهن بملامح تتراقص عليها السخرية، وقالت: -زعلانة ليه يا نيمو؟ حال اللايف واقف برضو؟ رفعت تسنيم عينيها بحدة، نظرتها صارمة وصوتها حاد كالسكين: -تريقة مش عايزة، عشان مزعلكيش! ابتلعت الفتاة سخريتها وابتسمت بلطفٍ مصطنع، قائلة بنبرة مُتوددة: -مش قصدي يا بيبي والله، أنا بس زعلانة أوي عشانك. تدخلت أخرى بابتسامة زائفة، كأنها تُلقي بملحٍ على الجرح: -يا نيمو، احنا كلنا زعلانين عليكي، والصراحة شايفينك غلطانة من أول الموضوع. انعقد حاجبا تسنيم بعدم فهم، نظرتها تتنقل بين الوجوه الملتفة حولها كأنها تبحث عن خيط يُفسر هذا الهجوم المُبطن، حتى بادرتها إحداهن: -انتي كنتي مكسرة الدنيا في السوشيال ميديا، ليه دخلتي بنت خالتك السهتانة دي؟ أهي سحبت البساط من تحت رجلك. تسلل الضيق إلى قلبها كأفعى تُحيط بفريستها، رمقتهن بنظرةٍ حارقة قبل أن تنهض بشموخٍ أثار
