بين الخديعة والهوى

بين الخديعة والهوى
بين الخديعة والهوى
كانت ليلة عاصفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، أمطارٌ غزيرةٌ تهطل بلا رحمة، وقلوبٌ أنهكها الوجع، ووجوهٌ فقدت رونقها بسبب فواجع القدر المخيفة، فقد غابت عمود البيت، وصعدت روحها إلى بارئها منذ ما يقرب من خمسة أشهر، تاركةً وراءها طفلين لا حول لهما ولا قوة. كانت وفاتها طبيعية تمامًا، لا يشوبها شائبة، لكن عقول أفراد أسرتها رفضت تصديق الخبر، وخاصةً زوجها كريم، الذي عاد من عمله بدولة الكويت ليدفن زوجته بدموع حارقة وقلبٍ مفطور، وبعد انتهاء مراسم العزاء، اضطر إلى العودة إلى الكويت مرة أخرى لتصفية أعماله، ليتمكن من العودة إلى طفليه، حنين ذات العشر سنوات، وهنا ذات الخمس سنوات، ليتولى تربيتهما ورعايتهما بعد رحيل والدتهما، بعدما تركهما أمانةً في رعاية والدته بمنزله. كانت الظروف مهيأة تمامًا لعودته إلى طفليه، بدءًا من اقتناع مديره بضرورة عودته، وصولًا إلى انتهاء إجراءات السفر وعودته إلى منزله، ذلك المنزل الذي كان يقيم فيه مع أطفاله وزوجته -رحمها الله- ووالدته. كان المنزل مكونًا من طابقين؛ شقة والدته في الدور الأرضي، وشقة أخرى في الطابق الثاني، وقد استطاع كريم شراء هذا المنزل في منطقتهم بعد سنواتٍ من الكد والعمل، حيث قضى تسع سنوات في الكويت، كما ساهمت والدته في تحقيق هذا الحلم ببيع شقتها التي كانت تقيم فيها، ليكمل هو باقي المبلغ بمبلغٍ مالي كبير، محققًا أحد أهم أحلامه؛ امتلاك منزلٍ يحتضن أسرته، ويمتلئ بالدفء والحنان. وضع “كريم” حقائب السفر جانبًا في شقته الواسعة، واستقبل طفليه بحنان واشتياق يفوق اشتياقهما إليه: -وحشتوني اوي يا حبايبي. قبلته كلتاهما فوق وجنته بحب، وبدت السعادة الباهتة تضيء وجهيهما الشاحبين: -وانت كمان يا بابا وحشتنا، الحمد لله إنك رجعتلنا تاني. كان صوت “حنين” الرقيق والناعم هو
أول من عبر عن فرحتها، بينما عقبت “هنا” بعدها متسائلة بقلق: -بابا انت مش هتسبنا تاني صح؟ حرك رأسه نفيًا وهو يردد بحزن طغى على صوته: -لا يا حبيبتي مش هسيبكم تاني أبدًا. تدخلت والدته من خلفه وهي تقول بعتاب هادئ: -يا بنات اهدوا وسيبوا بابا يرتاح شوية، هو خلاص بقى قاعد معانا على طول. ابتعدتا فورًا بناءً على رغبة جدتهما، فأخذهما كريم خلفه، وجلسوا معًا فوق الأريكة، وهو يستمع إلى أخبارهما خلال فترة غيابه التي امتدت خمسة أشهر، فقالت حنين بحزن وتعجب خالط ملامحها الصغيرة: -تصور يا بابا، خالتو سلوى مافكرتش تسأل فينا خالص من وقت وفاة ماما! رفع كريم عينيه إلى والدته باندهاش، متسائلًا في صمت. أدركت والدته نظرته، فأجابت على الفور بتعجب: -علمي علمك يا كريم والله، من وقت وفاة “ليلى” الله يرحمها وهي مسألتش في عيال اختها اللي ماتوا، مع إن المحل بتاعها في اخر الشارع يعني تقدر تيجي كل يوم وتطمن، وحنين وهنا بيروحوا دروسهم ويعدوا من قدامها بس ولا كأنها شايفهم أصلاً! مط شفتيه باستنكار ولكنه قال بهدوء: -عادي يا حنين اللي يسأل فيكم اهلاً وسهلاً واللي ميسألش براحته، احنا مابنشحتش الاهتمام من حد. -والله يا ابني قولتلها كده، بس البت مستغربة كإمن أمها الله يرحمها كانت قريبة من سلوى، اعذرهم معلش. حاول كريم تخفيف وطأة التفكير على ابنته، قائلاً برزانة: -يمكن عندها مشاكل في المحل بتاعها، ادوها عذرها، وبعدين هنقعد طول الليل نتكلم على خالتو “سلوى” يلا عشوني أنا جعان. نهضوا ثلاثتهم سريعًا ليحضروا له الطعام على عجلة من أمرهم، وسط ضحكات الطفلتين، لكنه في الحقيقة لم يكن يشتهي الطعام دون زوجته الحبيبة، رفيقة عمره وشريكته، التي غابت لتطفئ حياتهم ويسودها الوجع والألم، نظر بأسى وحسرة إلى زوايا
البيت التي ترسم مشاهد له مع زوجته، وكيف وضعا أسس منزلهما معًا بحب وتعاون. رن جرس باب المنزل، فتعجب قليلًا لمجيء ضيف في هذه الساعة المتأخرة، حيث كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة بعد منتصف الليل، نهض ليرى الطارق، فوجد سلوى تقف أمامه بملامح وجه باردة: -حمد الله على سلامتك يا كريم، نورت. لم يعرف سر جمود مشاعره أمامها، طالما كانت علاقتهما يسودها الود والاحترام، ربما حديث ابنتيه أثر به! -أهلاً يا سلوى، فيكي الخير جاية تطمني عليا! ومسألتيش على البنات وأنا مسافر؟ مالت برأسها جانبًا وهي تبتسم بسخرية، وقد تغيرت ملامحها وأصبحت أكثر جرأة ووقاحة بمساحيق وجهها المثيرة للاشمئزاز وعباءتها ذات اللون الأزرق الفاتح! وكأنها غير متأثرة بوفاة أختها الوحيدة!! -بلاش شغل الصعبنيات ده يا كريم، انت ماكبرتش على كده امال!! حتى طريقتها في الحديث أصبحت سوقية ومبتذلة، وكأنها انخرطت في مجتمع البيع والشراء، حيث لديها محلًا لبيع السجاد والمفروشات. -صعبنيات!! هو من امتى وأنا كده، أنا بس مستغربك…. أشارت إليه ليصمت فقالت بنبرة صلدة: -ولا تستغربني ولا استغربك، أنا جاية في كلمتين هقولهم وامشي، ويبقى كده عداني العيب. -كلمتين إيه؟ تساءل كريم بعدم فهم، والحيرة ترتسم على وجهه، بينما خرجت والدته خلفه هي والطفلتان، فابتسمت سلوى بتهكم: -كويس أمك جت أهي هي وبناتك عشان يسمعوا، أنا لامؤاخذة صبرت عليكم خمس شهور من وقت وفاة المرحومة وكمان كنت مستنية رجوعك مهو مش معقول همشي أمك والبنات من البيت كده من غير راجل يعرف يتصرف ويقعدهم في مكان تاني! -تمشي إيه؟ وبيت إيه؟ انتي بتقولي إيه أنتي كمان؟ انبثقت الأسئلة من فم كريم باندفاع غريب، فضحكت سلوى عاليًا بتبجح: -معلش أنا بردو لازم اعذرك، الصدمة كبيرة، اسندي ابنك يا حاجة ليطب يقع ميت لما يعرف إن البيت اللي انتوا قاعدين فيه ده ملكي وهو مالوش حاجة فيه.
تم نسخ الرابط