ثمن الشهرة

ثمن الشهرة
ثمن الشهرة
جلس عمر على مقعده الوثير داخل إحدى البنوك الشهيرة، يمارس عمله كمحاسبٍ بكل دقة وإتقان، كان يُنهي المعاملات المطلوبة منه بإتقانٍ واضح، وبجانبه كوب القهوة الساخن الذي يعبق بالمكان برائحة تبعث على التركيز. حاول تجاهل نظرات زملائه المتكررة منذ لحظة دخوله إلى مقر عمله، تلك النظرات التي حملت شيئًا من الغرابة والدهشة، وكأن ثيابه تحمل عيبًا ما أو أن في هيئته أمرًا غير مألوف. لم يكن يدري حقًا سبب تلك الهمسات المريبة التي تناثرت من حوله، لكنها كانت تزداد غموضًا وسخرية كلما مر الوقت، حاول جاهدًا أن يبقى على مسافةٍ من تلك التصرفات الغريبة، إلا أن الضيق بدأ يتسلل إلى صدره، وتملكه شعورٌ بالحنق، جعله يفقد السيطرة على أعصابه أخيرًا. التفت إلى أحد زملائه، المدعو عامر، وقال بنبرةٍ حادة لم يستطع إخفاءها: -في إيه يا عامر؟ هو أنا فيا حاجة غلط على الصبح؟! تردد عامر للحظة، ثم حمحم بصوتٍ خشن وهو يكتم ضحكةً كادت تفلت منه، وأجاب بجديةٍ زائفة: -لا لا، مفيش يا معلم، إحنا تمام أوي… صمت عامر بضع ثوانٍ، ثم أضاف بنبرة مالت إلى السخرية: -انت تمام؟ ولا مش تمام؟! رفع عمر حاجبيه باستنكارٍ واضح، وقال بصوتٍ غليظ: -مالك يا حبيبي؟ فيك إيه على الصبح؟ إيه جو الاستظراف اللي نزل عليك ده؟! تدخلت “أروى”، زميلتهم ذات الصوت الأنثوي العذب، لكن بنبرةٍ لم تخلُ من التشفي، مما زاد من دهشة عمر: ؛عامر ما يقصدش حاجة يا عمر، هو بس بيطمن عليك، أصل إحنا سمعنا إنك بتمر بظروف صعبة مع المدام! عقد عمر حاجبيه بغيظٍ مكتوم، ثم وقف ليواجه الجميع بلهجةٍ حادة تحمل كل مشاعره الملتهبة: -اللي عنده حاجة يقولها بصراحة، لكن جو شوق ولا تدوق ده مش هيمشي معايا، واللي مش هيحترمني، أنا
هطلع على البوص وأقدم فيكم شكوى! سارع شريف زميل آخر، بالتدخل بلهفةٍ واضحة: -اهدى يا عم عمر! هو إحنا مالنا؟! لامؤاخذة مش مراتك هي اللي طلعت على التيك توك وقالت إنكم متطلقين؟ انكمشت ملامح عمر بين الصدمة والاستنكار، ورد بنبرةٍ مكتومة بالغضب: -انت بتقول إيه يا جدع إنت؟! عاد صوت أروى يقتحم المشهد، هذه المرة بنبرةٍ مستهجنة، وعيناها تمرران نظراتٍ ازدراء من رأسه حتى أخمص قدميه: -الله! مش مراتك اللي عملت لايف وجابت مشاهدات فوق الـ 30 ألف واحد؟! وهي بتقول إنها قررت تنفصل عن جوزها الظالم والبخيل! اتسعت عيناه بعدم تصديق، وقال محاولًا التمسك ببقايا هدوئه: -مرات مين يا أروى؟ إيه الجنان ده؟ أنا مراتي ما بتطلعش لايفات ولا الكلام ده! مراتي محترمة وبنت ناس أوي، مالهاش في الحوارات دي، أكيد فيه لبس في الموضوع… لكن الحقيقة كانت أقسى مما توقع. فجأة، مد عامر هاتفه أمام وجه عمر، ليظهر مقطع مصور لزوجته “يارا” في بثٍ مباشر على منصة “تيك توك”، تلك المنصة التي طالما أبغضها وابتعد عنها تمامًا. كانت “يارا” تجلس بكامل ثيابها وحجابها، وفي خلفية المشهد ظهرت غرفة نومهم، تفاصيلها الدقيقة التي يعرفها جيدًا، تجلت الصدمة على وجهه وهو يستمع لصوتها العذب وهي تجيب على أحد المتابعين عندما سألها إن كانت متزوجة أم لا، لترد بجرأةٍ وتبجح: -لأ، مطلقة! أضافت قصةً ملفقة عن سبب طلاقها، مدعيةً أن زوجها رجلٌ عصبي وبخيل في مشاعره وماله! كأن طعناتٍ غادرة وُجهت مباشرةً إلى قلبه، وشظايا من الكرامة والرجولة تبعثرت أمام زملائه، لم تعد المسألة مجرد موقفٍ محرج أمام زملائه فحسب، بل أصبحت فضيحةً يتناقلها كل مستخدمي تلك المنصات. ابتسم عامر ابتسامة ثعبانية وقال: -على فكرة، حتى لو كانت بتعمل حوار، مراتك دخلت مجال الشهرة من أوسع أبوابه،
ده بقالها لايفين واللايف الواحد معدي 30 ألف مشاهدة! أردفت أروى بابتسامةٍ خبيثة: -بكرة الإعلانات تترمى عليها يا عمر، ومش بعيد تدخل جولات مع ناس تانية وتقول كبسوا كبسوا. تدخل شريف، الأربعيني الذي كان يعدل نظارته الطبية، بحماقةٍ وتسرع: -على فكرة، قالت الكلمة دي فعلاً في لايف كانت بتعلن فيه عن منتجات للبشرة، ومراتي من وقتها نازلة زن، عايزاني أطلبهم لها عشان المدام بتقول إنهم بيفتحوا البشرة! بس أنا فقولتلها إن مرات عمر أصلاً بيضة ومش محتاجة… لم يتحمل عمر أكثر، صرخ بقوة وقد اشتعلت عيناه بلهيب الغيرة والغضب: -اخرس! سيرة مراتي متجيش على لسان حد فيكم! فاهمين ولا لا؟ وأقسم بالله اللي هيفكر يهلفط بالكلام هعلمه الأدب! كله إلا سيرة أهل بيتي!” *** في إحدى الشقق السكنية الواسعة الواقعة في حي من الأحياء الراقية، دخلت يارا إلى غرفة نومها بعد أن أتمت مهامها المنزلية على عجل، كانت تشعر بضيق الوقت يضغط عليها، فقررت أن تبدأ بثًا مباشرًا عبر منصة “تيك توك” لتعرض مجموعة من منتجات العناية بالشعر التي وصلتها حديثًا من إحدى الشركات الصغيرة، إذ كان بينها وبينهم اتفاق مُبرم أن تُثني على المنتجات، بغض النظر عن رأيها الحقيقي!! بيدٍ خبيرة، ثبتت هاتفها على حامل التصوير، واختارت بعناية زاويتها المفضلة، ارتدت ثيابًا أنيقة، وحجابًا أبيض وضعته بأسلوب عصري أنيق، رفعت وجهها لتطالع نفسها في المرآة، غير أن انعكاس صورتها هناك أصابها برجفة داخلية؛ إذ كان ضميرها يتلوى في صدرها كسمكة أُلقيت على الجمر، ورغم هذا الشعور العميق بالذنب، عادت لتتظاهر باللامبالاة، محاولة إقناع نفسها بأنها لم ترتكب خطأً فادحًا، كل ما في الأمر أن زوجها، عمر، لم يكن يومًا من أولئك الذين يتفاعلون على وسائل التواصل الاجتماعي، وبالتحديد على “تيك توك”، وبالتالي لن يفهم طبيعة عملها هناك. تنفست بعمق، محاولة استعادة نشاطها وثباتها، وهمت بالضغط على زر البث، لكن فجأة انفتح باب الغرفة بعنف، فقفزت من مكانها وتراجعت إلى الخلف على مقعدها الصغير، رفعت عينيها بارتباك نحو زوجها، الذي وقف أمامها بملامح غامضة، لكن شيئًا واحدًا كان واضحًا في وجهه، الغضب المتأجج والشر المستعر. صدح صوته كالرعد، وارتجت جدران الغرفة تحت وطأة كلماته، بينما عيناه تلتهمان الهاتف بنظرات ملؤها الحقد والغل، قائلًا: -آسف، قطعتك؟ تحبي تطلعي لمتابعينك يا محترمة؟ ولا تفضلي أطلع معاكي وأوريهم جوزك المفتري والظالم والبخيل؟ قبضت يارا على حافة المقعد، كأنها تستمد منه ثباتًا أمام هجومه المباغت، وقالت بصوت مرتجف: عمر، اهدأ لو سمحت! هفهمك كل حاجة والله… كنت بس مستنية الوقت المناسب! خرجت من بين شفتيه لفظة نابية، تلطخت بالعنف والقسوة، ثم أضاف بنبرة استنكار لاذعة: -وقت مناسب! إنتي بتستغفليني يا يارا؟ أنا أطلع مغفل قدام زمايلي وأهلي وأصحابي، ومعرفش إيه اللي بتعمليه من ورايا في أوضة نومي؟ دار حول نفسه كأنما يبحث عن مخرج من دوامة الصدمة، أشبه بأسد جريح طُعن من قطيعه، ثم توقف وقال بعدم تصديق: -تطلعي لايفات، وتضحكي وتهزري، وتشكري الداعمين… مش دا اسمه داعم برضو؟! وبتقوليله كفووو يا أبو طلال! صح؟ علا صوته أكثر، فارتعدت يارا ونهضت من مقعدها، تتراجع إلى الخلف بخطوات مهتزة، محاولة تبرير موقفها، قائلة بارتباك واضح: -أنت فاهم موضوع الدعم ده غلط! دا مجرد تعبير عن المحبة و… لم يمهلها فرصة، بل اندفع نحوها بشراسة، أمسك بمرفقيها بعنف، وحركها بين يديه كدمية، وخرجت كلماته مثقلة بالغضب: -محبة؟! دي وقاحة وقلة أدب! ليه عملتي كده؟ ليه ضحكتي عليا؟ أنا قصرت في إيه؟ تلعثمت الكلمات على لسانها، وكلما حاولت التبرير زاد حبل الارتباك التفافًا حولها: -أنا عارفة إني غلطت… بس كنت خايفة أقولك والله! اشتعلت مشاعر عمر كالجمر تحت الرماد، وقال بحرقة: -ومش خايفة مني دلوقتي يا يارا؟ ردي وقولي! ولا خلاص مبقاش يهمك أصلاً؟ تساقطت الأفكار من رأسها كحبات مسبحة انقطعت، فقالت بصوت مبحوح: -لا… يهمني! ممكن تهدى وتسمعني؟” أبعد يدها عنه بقسوة، وكأن لمسة يدها تُشعل فيه نارًا من الاشمئزاز والاحتقار، وقال: -أسمعك؟ وكأنني هسكت وأعديها وهوافق على المهزلة دي؟ ابعدي عني! استدار ليخرج من الغرفة، لكنها تداركت الأمر، واحتضنت جانبه، قائلة بنبرة تلامس البكاء: “-أنا ما عملتش كده إلا من زهقي والله يا عمر! طول اليوم قاعدة في البيت، مابعملش حاجة، زهقت وكان نفسي أعمل حاجة، تسنيم بنت خالتي قالت لي على فكرة اللايفات، فقلت أجربها. ازدادت حدة صوته، ولم تكن رغبته في الصراخ، بل لأن كلماته المثقلة بالاستنكار تأبى الخروج بهدوء: -آه! قولي كده… تسنيم بنت خالتك العقربة هي السبب! أنا فعلاً غبي! إزاي مفكرش إن سبب قلة الأدب دي تكون تسنيم؟! ارتعشت يارا وهي تحاول إنكار الحقيقة، لكن كلماتها خانتها: -مش كل حاجة غلط تحطها على تسنيم وخالتو يا عمر! تسنيم كانت بتحاول تساعدني! نظر إليها وكأنه لا يصدق أذنيه، وقال باستهجان ناري: -تساعدك؟! -أيوه! أنا كنت مكتئبة وأنت ولا حاسس! هي وخالتو كانوا بيسمعوني! رد عليها بسخرية لاذعة، وكلماته كالسهام تصيب بدقة وتكشف عن جرح عميق: -مكتئبة من إيه؟! هو أنا بنميك من غير عشا؟ أنا أهملتك قبل كده؟ في إيه كان ناقصك؟ عمرك ما جيتي وقولتيلي إنك مخنوقة وما سمعتكيش؟ انتي بتبرري إيه؟ دي خيانة! شحب وجهها، وتلعثمت كلماتها كأنما صُعقت بتيار كهربائي: -خيانة! إنت بتقول إيه؟ رد بلا تردد، كالسيل الجارف الذي حطم سدود الصبر والتروي: -آه طبعًا! اللي عملتيه ده خيانة! خونتي ثقتي فيكي! انتي عارفة كويس إنك غلطانة، وإنك لو كنتي جيتي وقولتيلي كنت هرفض وهزعق! اعترضت بنبرة باكية، محاولةً إلقاء اللوم عليه: – آه! شوفت! كنت هتزعل وتزعق! رمقها بنظرة جمدت الهواء من حولها، وصاح بقوة: -عشان اللي عملتيه غلط! اوعي من وشي! دفعها عنه وخرج نحو غرفة أخرى، حيث جلس يصارع أفكاره، يحارب الشيطان الذي يوسوس له بتطليقها، كانت نار الغضب تتأجج داخله، لكنه ظل ممسكًا بخيط رفيع من الود الذي لم ينقطع بعد، مانعًا نفسه من اتخاذ خطوة متهورة قد يندم عليها لاحقًا!! **** ها هي يارا تجلس في مكانها فوق فراشها، والدموع تنساب على وجنتيها بحرقة، بينما تتردد كلمات عمر في أذنيها بقوة، كصدى مطرقة حديدية هوت فجأة وبعنف، مسحت دموعها الغزيرة بيد مرتجفة، وأمسكت هاتفها بسرعة، لتجري اتصالاً بصديقتها الوحيدة وابنة خالتها، تسنيم، علها تجد عندها رأيًا ينقذها من مصيبتها الوشيكة، فقد أيقنت أن عمر لن يتوانى عن معاقبتها وفرض قيوده عليها مجددًا. وما إن وصلها صوت تسنيم المرح عبر الهاتف حتى زاد ذلك من شعورها بالعجز والضياع: -إيه يا يويو؟ مطلعتيش لايف ليه؟ لم تستطع يارا الرد في البداية، إذ خرجت منها أصوات بكاء متقطعة قبل أن تتمكن أخيرًا من النطق بصوت خفيض، تخشى أن يسمعها عمر فيعود ليصب كامل غضبه عليها: -أنا في مصيبة. ساد الصمت لثوانٍ، ثم جاءها صوت تسنيم وقد تسللت إليه نبرة الحذر: -مصيبة إيه؟ ارتعش صوت يارا وهي ترد بنبرة حزينة: -عمر عرف إني بعمل لايفات، وجه وهد الدنيا. لم تهتز تسنيم، بل غلف البرود صوتها وهي تقول بلا مبالاة: -هيهد الدنيا شوية ويسكت، وهتعدي، ميبقاش قلبك خفيف! هزت يارا رأسها نفيًا وكأن تسنيم تراها، وهمست بصوت يتخلله القلق والندم: -انتي ماتعرفيش عمر، هو مش هيعديها بالساهل. جاء رد تسنيم سريعًا وحادًا، وكأنها تلومها على ضعفها: -إيه يا حبيبتي مالك هبلة كده ليه؟ هيعملك إيه يعني؟ هيقتلك مثلاً؟ هيضربك؟ اجمدي بقى! لازم توقفي قدامه، وكل ما يحاول يحط الغلط عليكي، حسسيه إن هو اللي غلطان، يا يارا، مش معقول كل شوية أقولك نفس الكلام! أغمضت يارا عينيها بيأس، وهمست بنبرة مبحوحة: -تسنيم… عمر بيتهمني بالخيانة. شهقت تسنيم بقوة، وتحولت نبرتها إلى العنف والغلظة: -انتي مجنونة؟ وسكتي له؟ يا عبيطة! ردت يارا بانكسار: -كنتي عايزاني أعمل إيه وهو بيزعق ومتعصب. جاء رد تسنيم صارمًا وشديد اللهجة: -كنتي تشتميه! وسيبي له البيت يا يارا! بصي… أنا هصحي ماما ونيجيلك حالاً، نحط له حد! ارتجف قلب يارا من الذعر، وأسرعت تقول: لا… لا… لا… لكن الاتصال انقطع فجأة، حاولت الاتصال مجددًا، وهي لا تزال تحت تأثير الصدمة، كان رد فعل تسنيم السريع والمندفع كفيلًا بزيادة الطين بلة، لكن الهاتف ظل صامتًا بلا استجابة. تنهدت يارا بعمق، وضغطت على جانبي رأسها بيديها كأنها تحاول إيقاف الأفكار المتلاحقة، تخيلت الكارثة التي ستقع فور وصول خالتها وابنتها، وتدخلهما في حياتها وفي ذلك الأمر الخطير الذي قد يجعل حياتها تتأرجح على حافة الهاوية. ***   ررت يارا أن تتحدث مع عمر، محاولةً امتصاص غضبه قبل أن تأتي خالتها وتسكب البنزين فوق نيران غضبه بنبرتها المتسلطة وشخصيتها القوية، ورغم مرور ثماني سنوات على زواجهما، إلا أنه لم ينجح قط في التأقلم معها، وظل يحاول بشتى الطرق تفادي الاحتكاك بها. غسلت وجهها الذي شحب فجأة، رغم مرور ساعات قليلة فقط على الموقف، وفي تلك اللحظة، ترددت في ذهنها كلمات تسنيم عن مدى تأثير عمر عليها، وكيف يضعف ذلك شخصيتها أمامه، أدركت أنها بحاجة إلى خلق هيكلٍ ثابتٍ وقوي حول نفسها، لتواجه طوفان تحكماته المستمرة. حاولت يارا إمساك الحبل من المنتصف؛ ألا تتنازل وترضخ فيبدد عمر شخصيتها، وفي الوقت نفسه تمتص غضبه المتفاقم، وتهدئ الوضع بينهما، وتجد حلاً يرضي كلا الطرفين. أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تطرق باب غرفة ابنتها، التي لا تزال في المدرسة، ولا تعي بما يحدث بين والديها، طرقت الباب عدة طرقات، وقالت بنبرة متحشرجة: -عمر، محتاجة أتكلم معاك قبل ما رودي ترجع من المدرسة. مرت ثوانٍ كانت الأصعب عليها منذ أن تزوجته، وعندما رأت مقبض الباب يتحرك، ارتسمت على شفتيها ابتسامة رضا، لكن تلك الابتسامة سرعان ما ذابت عندما رأته يقف أمامها، يحدق بها بعينين يملؤهما العتاب والغضب، كان صمته أبلغ من أي صراخ، مما أربكها بشدة. وقع بصرها على هاتفه الذي كان في يده، وظهرت عليه بثوثها المسجلة والمنتشرة على منصتي “تيك توك” و”فيس بوك”، بفضل مصممي المحتوى، قبضت يدها وهي تجاهد انهيارها الوشيك، وتقدمت بخطوات مثقلة إلى داخل الغرفة. كان عمر يقف جامدًا كالتمثال الحجري؛ لا تتحرك منه سوى عيناه، اللتان كانتا تشعان حياة، لكنها حياة مظلمة مخيفة، فشعرت وكأن شعاع الأمان الذي كانت تلمسه دومًا معه قد تلاشى، وحل مكانه ظلام دامس. -أنا عارفة إن اللي عملته كان غلط، بس… بس ده في نقطة واحدة بس… قطع حديثها بجملةٍ باردةٍ كالثلج: -أنا مش مسامحك. كانت تلك الكلمات كفيلة بتجسيد مدى الخذلان الذي يشعر به بسببها، لم يكن يعرف كم مرة نعت نفسه بالمغفل وهو يشاهد بثوثها، ويرى وقاحتها وفرحتها بالدعم الذي جهل دوافعه، لكن بعض التعليقات أصابته بالصدمة؛ حيث قرأ تعليقًا لأحد الأشخاص كتب فيه: -“يا عم تلاقيه عايز حاجة منها لامؤاخذة عشان كده بيدعم بقلب جامد.” وتعليقًا آخر زاد من جرحه: -“يا بنت الأيه دي كلها أسود نازلة، يا ترى إيه المقابل!” ظلت نظراته معلقة بها، وكلما حاول الحديث، خانته كلماته، فاختار الصمت الذي كان كسيف مسلط على رقبتها. أما هي، فكانت تخفض بصرها، تشعر بالخزي منه ومن نفسها، تمنت لو عاد بها الزمن، لتخبره عن كل شيء وتستخدم سلاح “الزن” حتى تحصل على موافقته. لم تشعر بما يحيطها، فقد كان هو في وادٍ آخر؛ لم يعد يرى أمامه سوى الضباب، ضباب الخيبة والغضب، وكأن العالم من حوله فقد ألوانه، وأصبح باهتًا لا روح فيه. -على فكرة، طول ما أنت رافض تسمعني، أنا وأنت عمرنا ما هنوصل لحل وسط. قالت يارا بنبرة هادئة رغم توترها، محاولةً بث بعض العقلانية في الحوار المحتدم بينهما. لكن صوت عمر جاء منخفضًا، وكلماته حادة كالسكاكين، تقطع الهواء بينهما وتزرع الرعب في قلبها: -مفيش حل وسط، أنا قولتلك، المهزلة دي لازم تقف فورًا. ارتجفت أناملها بخفة، فقبضت يديها بقوة حتى لا يلحظ ارتعاشها: -يعني إيه يا عمر؟ مرر يده على وجهه، وكأنه يحاول نفض غبار الصدمة عن ملامحه، لكن النار المتقدة في عينيه فضحت كل شيء: -يعني الأكونت ده هيتقفل، ومفيش سوشيال ميديا تاني. أقولك حتى النت كمان هلغي اشتراكه، وبنت خالتك وخالتك طلعيهم من حياتك خالص يا يارا، فاهمة ولا لأ؟ حاولت أن ترسم ابتسامة ساخرة، لكن شفتيها خانتاها وارتعشتا في طرفهما: -ادفني بالمرة يا عمر! انت كده بتعزلني عن العالم! اهتز صوته، وكأن الكلمات كانت تخنقه قبل أن تصل إلى شفتيه: -ده فعلاً اللي لازم يحصل، انتي لازم تعتزلي الناس كلها لغاية ما ينسوا اللي عملتيه يا هانم، أنا أصلاً مش عارف هروح شغلي إزاي وهتعامل مع زمايلي إزاي، ولسه أهلي… وقفت يارا مستقيمة كعود الخيزران، مرنة من الخارج لكنها على وشك الانكسار من الداخل، وقالت باستنكار طفيف: -اه، انت مش زعلان عشان أنا خبيت عليك، انت زعلان على شكلك ومنظرك! ضحك ضحكة قصيرة وخالية من الحياة، وكأنها مجرد رد فعل لا إرادي على سخافة ما سمع: -بجد ده اللي انتي فهمتيه؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا حزين على دماغك اللي مسواحكي! تحدثت بنبرة ثابتة، لكن قلبها كان يدق بعنف كأنه يحاول الهرب من صدرها: -مسواحني! بجد ده رأيك فيا! بس هقول إيه، انت معندكش حاجة تقولها عشان كده عمال تعيب فيا، وانت عارف كويس إنه لو خبيت عليك فدي غلطة بسيطة جدًا، وطلوعي على التيك توك كان باحترامي وأدبي، مابطلعش أرقص ولا بعمل حاجات تضر سمعتي. عندما نطقت بكلمتها الأخيرة، شعر وكأنها ألقت عليه دلوًا من الماء المثلج، فتجمدت مشاعره إلا الغضب: -ظهورك نفسه غلط ويضر سمعتك، أوضة نومي اللي بقت مباحة للشعب كله غلط في غلط وقلة أدب! فرحتك بفلوس نزلتلك غلط وقلة قيمة! لو عايزني أعيد تربيتك وأعدلك دماغك من جديد معنديش مانع! أخفضت عينيها للحظة، ثم رفعت بصرها سريعًا، تخشى أن يلتقط في نظراتها لمحة ضعف، فقالت باستياء حزين: -أنا مش هرد عليك، باين عليك غضبك مسيطر عليك لدرجة إنك مش مستوعب حجم الكلام اللي بتقوله! اقترب منها فجأة وأمسك مرفقها بقوة، يقربها منه وهو ينظر في عمق عينيها المرتجفة من وقع نظراته الشرسة، وهتف من بين أسنانه بغيظ مكتوم: -لا، واعي أوي لكل كلمة بقولها، وفي كلام أكتر من كده لو طلع هيزعلك أوي. امتلأت مقلتاها بالدموع، وقالت بنبرة ضعيفة مهزوزة تبث بها كامل عتابها: -أكتر من كده يا عمر؟ انت قولت كل الكلام اللي يوجع. اخترق رنين جرس الباب الأجواء المشحونة من حولهما، ففك حصارها وقال بنبرة آمرة: -روحي يا هانم افتحي، أكيد دي بنتك. تقهقرت كمحارب تقبل هزيمته منذ أول جولة، وفتحت باب الشقة بقلقٍ، خشية أن تكون تلك خالتها وابنة خالتها تسنيم، وكما توقعت، وجدتهما يقفان أمامها بنظراتهما المتعالية ووجهيهما اللذين ينذران بكل ذرة غضب. حاولت تهدئة الوضع، قائلة بنبرة راجية تنافي الذعر الذي يعتمل بداخلها: -اهدي يا خالتو، أنا بتكلم مع عمر وبفهمه واحدة واحدة. أبعدتها خالتها عنها بقوة، تصيح بنبرة مستشيطة عالية: -هو فين الباشا؟ فين المحترم؟ وضعت يارا يدها فوق وجهها لعلمها إلى أي مدى ستصل الأمور سوءًا، ولم يحتج الأمر إلى دقائق أخرى حتى ثبت لها أن نهايتها هي وعمر أصبحت متعلقة بطرف خيط رفيع. خرج زوجها بوجومه وغضبه المستنكر من وجود أكثر شخصية يبغضها في حياته. -الباشا والمحترم أهو، عايزة إيه؟ تقدمت تسنيم بخطوة، وقالت بنبرة استعلاء: -انت مدان بالاعتذار لمراتك، المفروض تشجعها وتسيبها تشوف حياتها بالطريقة اللي هي شايفها صح، متبقاش راجعي يا عمر وفكك من جو سي السيد ده. وقف أمامهم كالجبل الراسخ، لكن داخله كانت العواصف تعصف بكل ما تبقى من هدوئه، فقال بنبرة خشنة صلبة: -لا، أنا للأسف راجعي، ومش هسمح بقلة الأدب دي، والكلام مش معاكي يا تسنيم ولا مع أمك، مع مراتي المحترمة، دا آخر إنذار ليكي، لو ماسمعتيش كلامي، وقفلتي الأكونت ده، وقطعتي رجل خالتك وبنتها العقارب دول من حياتنا، يا إما كل واحد يروح في حاله. تجمدت ملامحها في لحظة، وكأن الزمن توقف عند كلمته الأخيرة، تلك الكلمة التي مزقت صمتها بضربة واحدة، فرفعت رأسها بشموخ تمنع دموعها الخائنة من النزول: -تمام، انت اللي اخترت، ثانية واحدة يا خالتي هلم حاجتي وآجي معاكم. تقدمت خالتها بخطوات ثابتة، وقالت بنبرة انتصار: -روحي يا روح خالتك، كويس إنك عرفتيه على حقيقته. شعر عمر ببرودة تسري في أوصاله، وكأن دماءه توقفت عن الجريان للحظة وهو يراها تتخلى عنه بسهولة، وكأن كل شيء بينهما كان مجرد سراب تلاشى مع أول نسمة ريح. *** مر يومان وهي تجلس وحيدة في غرفتها القديمة داخل شقة خالتها التي تقع في إحدى المناطق الراقية، إلى جوارها ابنتها رودي، ذات السبع سنوات، غافية على ساقها بعد أن استنزفت طاقتها في طرح الأسئلة عن والدها وسبب تركهما لمنزلهما، تراكمت الأسئلة في رأسها، وحاولت الإجابة على بعضها، لكنها آثرت تأجيل البقية إلى حين إشعارٍ آخر. الغريب في الأمر أن عائلة زوجها، التي كانت تُكنُ لهم كل الاحترام والتقدير، لم يسألوا عنها ولم يُبدوا أدنى اهتمامٍ بها، ترددت في ذهنها كلمات خالتها التي كانت تُحذرها دومًا. “دول عالم جرابيع، مكنوش أصلاً من مستوانا يا حبيبتي، بس انتي اللي وحلتينا الوحلة دي.” قطع تفكيرها دخول تسنيم إلى الغرفة، تتحدث بضيق من هالة الحزن التي خيمت على المنزل منذ عودة يارا معهم: -مش كفاية بقى حزن على الأطلال يا ست الحسن والجمال. رفعت يارا عينيها الباكيتين وابتسمت بحزن: -مابتقوليش ست الحسن والجمال إلا لما تكوني مش طايقة نفسك ومش طايقاني معاكي! جلست تسنيم على طرف الفراش بجسد مستقيم، لطالما حافظت على رشاقتها ونضارة بشرتها، واضعةً ساقًا فوق الأخرى بعنجهية متأصلة فيها: -هتفضلي كده لغاية إمتى؟ عايشين في حزن أنا ومامي، وانتي عارفة إننا مابنطقش نزعل ونتكد، وسايبة شغلك وقاعدة تعيطي لي؟ وده كله ليه؟ وعشان مين؟ عشان واحد ماقدركيش! قالت يارا بنبرة منكسرة، يغمرها الأسى المسيطر عليها: -العملية مش عملية تقدير، على قد ما أنا زعلانة على سنين عمري اللي ضاعت كده، ومفيش حاجة عملتها شفعتلي عنده. زمت تسنيم شفتيها وهي ترمقها بنظرةٍ حانقة: -طول ما انتي كده عمرك ما هتعرفي قيمة نفسك، فوقي عشان هو يعرف يقدرك، قومي يلا اطلعي لايف وولعي الدنيا، مش هو بيضايق من كبسوا كبسوا؟ اخربي الدنيا وهيصي وشغلي أغاني في اللايف بتاعك وحسسيه إنك ولا فارق معاكي، وهو اللي هيجي يلف وراكي زي الكلب. هزت يارا رأسها نفيًا وقالت بضيق: -مش هقدر، مش هكون ظريفة. أصرت تسنيم بإصرارٍ مغلف بالمكر: -بالعكس، الناس بتحب الأجواء دي، وارمي كلمتين عليه في اللايف، خليه يتجنن أكتر، يلا اخلصي يا إما أدخلك ماما، وأنا كمان هطلع لايف ونبقى نطلع جولة. أومأت يارا برأسها مستسلمة، رغم عدم رغبتها في الظهور، نهضت بثقل، وارتدت سترة مناسبة وحجابها، وضعت بعض اللمسات الخفيفة لتخفي آثار الانتفاخ في عينيها الباكيتين، وبدأت تستعد للظهور في بث مباشر جديد. في هذه الأثناء، كانت تسنيم في غرفتها، تجلس أمام مرآتها، تمشط خصلات شعرها للخلف، وتضع أحمر شفاه بلونٍ صارخ ولمعةٍ جذابة، استعدادًا لبثها المباشر، لكن الفارق بينها وبين يارا أن لتسنيم أقدمية في البرنامج، وتعرف جيدًا دهاليزه وأسراره. اكتسبت تسنيم شهرة واسعة ومحبة كبيرة، لكنها بدأت تتلاشى ببساطة منذ أن دخلت يارا عالم البثوث، فمنذ ظهورها، بدأت تسحب منها البساط تدريجيًا، حتى بات بث تسنيم مُهمشًا أثناء بث يارا التي اكتسحت البرنامج في أيامٍ معدودة، تهافتت عليها الإعلانات وأموال الدعم، إلا أن سذاجتها جعلتها تحول جميع الأموال إلى خالتها. زفرت تسنيم بحنق، تحاول استعادة تركيزها وبدأت البث، بالفعل زاد عدد المشاهدين إلى رقمٍ لا بأس به، إلا أنه بدأ بالتراجع تدريجيًا، بدأت التعليقات تتزايد حول عودة يارا إلى البث مجددًا، حتى وصل عدد المشاهدين لديها إلى ألف مشاهد فقط بعد أن كان بثها يصل إلى عشرين ألفًا وأحيانًا أكثر. أصابها الارتباك والغضب بشدة، لدرجة أنها تشاجرت مع أحد المتابعين ونعتته بالغبي وألفاظٍ بذيئة، فرد عليها المتابع بالمثل، ناعتًا إياها بالحاقدة، ومؤكدًا أن ابنة خالتها أكثر رُقيًا منها.
تم نسخ الرابط