إمبيريا

إمبيريا
إمبيريا
يسير بخطى متثاقلة في الممر الطويل، حتى وصل لقاعة التدريس، يعرف أن طلابه ينتظرونه بداخلها، إنه اليوم الأول في العام الدراسي الجديد، يمر أمامه الطلاب بعضهم متحمس للغاية، والبعض الآخر يسير ببطء وتثاقل مثله تمامًا، انتهى من قهوته قبل أن يدخل القاعة ويلقي خطبته المعتادة على طلابه الجدد من رواد الصف الأول الثانوي ككل عام، اعتاد على هذا الروتين الصباحي منذ عشرة أعوام قضاها كمعلمًا في هذه المدرسة. حالة من الهرج كانت تسود القاعة بسبب ما يفعله الطلاب، لا أحد منهم يجلس في مكانه، يبدو أنهم قد تعارفوا على بعضهم البعض بسرعة، وقف أمامهم وابتسم، كانت ابتسامته هادئة، لكنها لم تفلح في تهدئة من بالقاعة فازداد هرجهم رغم وجوده بينهم وكأنه غير مرئي، وضع حقيبته على طاولة صغيرة بجواره، ووقف ينظر لهم مرة أخرى بعد أن نظر في ساعة يده، بدأ بالتحدث إليهم: – صباح الخير. خفت همهات الطلاب وبدأوا في اتخاذ أماكنهم بشكل مباشر، هو يعرف تمامًا أن هذا الانتباه المفاجيء ربما لن يستمر كثيرًا، فهم فقط يحاولون التعرف على عالم جديد قام بفتح بابه لهم، دائمًا ما يكون المعلم الذي يستقبل الطلاب في يومهم الدراسي الأول بمرحلة جديدة، هو الذي يعطيهم انطباع عما سيحدث لباقي الأعوام القادمة، لذلك كان يحب دائمًا أن يستقبل الطلاب ويتعرف إليهم قبل أن يسبقه أحد: – أنا اسمي الأستاذ يوسف.. يوسف الحجاوي، هاكون معاكم هنا علشان أفيدكم وأدرس لكم مادة الفلسفة، يمكن معلوماتكم عن الفلسفة إنها مادة صعبة، لكن اللي يفهم الفلسفة بجد هيحبها ويقدر يستفيد منها في حياته بشكل كبير. سمع صوت أحد الطلاب سائلًا بسخرية: – ازاي يعني يا مستر، هابقى فليسوف يعني؟ نظر إلى صاحب السؤال وابتسم
له وتوجه نحوه ببطء، بينما ظل الطالب ينظر له بتحدٍ، وبدأ يجيبه بهدوء: – ممكن تبقى فيلسوف.. اسمها فيلسوف مش فليسوف، وأنا أستاذ مش مستر… انت اسمك إيه بقى؟ أجاب الطالب بنبرة هادئة تشبه نبرة أستاذه: – اسمي سيف. – طيب يا سيف، أنا عاوز أقول لك إنت وزمايلك إن كل واحد مننا جواه فيلسوف، حتى لو مش واخد باله من وجوده. بدأ الطلاب في الانصات لأستاذهم بشكل أكبر: – الفلسفة باختصار هي أسلوب التفكير، وكل واحد مننا بيفكر وعنده منهج حياة، بيصممه بطريقة تفكيره، مش دايمًا بتسمعوا في البرامج سؤال بيسألوه للضيف ويقولوا له إيه فلسفتك في الحياة، كل واحد منكم يفكر النهاردة إيه هي فلسفته في الحياة. كان الطلاب يتنظرون لأستاذهم ببلاهة، يحاولون تأمل كلماته التي لا يفهمون منها سوى القليل، فكيف يكون لكل منهم فلسفته وهم لا يعرفون حتى معنى الكلمة! كان وقت الحصة قد أوشك على الانتهاء فقرر أن يلقي أمامهم كلماته كما اعتاد أن يفعل مع الطلاب الجدد كل عام قبل مغادرته الصف: – قبل وقت الحصة ما يخلص أنا عاوز أقول لكم إن ممكن كمان كام سنة تنسوني خالص، ممكن متفتكروش اسمي ولا شكلي، ممكن تحبوني أو تكرهوني، وممكن تحبوا الفلسفة أو لأ برضه، لأننا مش شبه بعض ومش ممكن كل الناس تتفق على حب حاجة أو حد، لكن اللي أنا واثق منه كويس جدًا، هو إن في يوم من الأيام هييجي يوم وتطبقوا فيه حاجات اتعلمتوها مني، هتطبقوها حتى لو انتم مش واخدين بالكم، ولا فاكرين حتى إني قلتها، وأتمنى انكم تطبقوها بشكل كويس ينفعكم وينفع اللي حواليكم… أشوفكم الحصة الجاية تكونوا فكرتوا في إجابة السؤال… إيه هي فلسفة كل واحد منكم
في حياته؟ غادر القاعة بينما ترك الطلاب يتحدثون عنه وعن حديثه الذي لم يفهموا معظمه، لكنه أثار بداخل بعضهم تساؤلات كثيرة. توجه لغرفة المعلمين، وطلب كوبًا من الشاي الذي أعده له على الفور “محسن” عامل البوفيه: – الشاي يا أستاذ يوسف وكل سنة وانت طيب، ياريت بقى متسيبش الشاي يبرد قدامك زي كل سنة وتخليني أعمل غيره. ضحك يوسف وهو يحمل كوب الشاي ويرتشف منه: – قلبك اسود يا محسن، بس برضه محتاج أفكرك زي كل سنة إني باشرب الشاي عليه معلقتين سكر. – ياااه معلش عندي المرة دي، ما هو برضه مفيش حد بيشرب الشاي عليه سكر والقهوة سادة، دي حاجة تلخبط وأنا مش ناقص بصراحة. وضع يوسف كوب الشاي أمامه وتحدث بجدية إلى محسن: – لسه برضه الحكاية إياها؟ زم محسن شفتيه، وهو يضع الصينية الفارغة على مكتب يوسف وقال بأسى: – الحقيقة يا أستاذ يوسف أنا فقدت الأمل، مفيش مرة واحدة أحاول في الحكاية دي إلا لما تتعقد بزيادة، بدأت أحس إن قدري أفضل طول حياتي عامل بوفيه، العيال بتدخل المدرسة وتكبر وتطلع من هنا على الجامعة، والمدرسين تترقى وتروح مدارس أحسن وحياتهم تتحسن، وأنا زي ما أنا محسن بتاع البوفيه. شعر بالأسى على حاله، فهو يعلم أن محسن منذ سنوات يحاول تحسين وضعه، في الأصل لم يكن محسن يرغب في تغيير أي وضع خاص به، لكن منذ ثلاثة أعوام قرر الزواج من فتاة أحبها بشدة، واشترط عليها والده أن يبحث على عمل آخر، وإلا لن يقبل بزواجهما، ولو لم يكن والد الفتاة هو خال محسن لما انتظر كل هذه الفترة، خصوصًا أنه يرى محاولات محسن الجادة في تحسين أوضاعه، لكنه فقط لا يريد أن يكون زوج ابنته مجرد عامل بوفيه، لذلك كان يوسف يشفق عليه ويستاء من شروط وتحكمات خاله فحاول لَفت نظر محسن دون التدخل في أموره الخاصة: – بس تعرف يا محسن! لو خالك فعلًا بيفهم يقبل يجوزك بنته من غير الشرط السخيف ده. – ده نفس كلام أبويا برضه يا أستاذ يوسف هو بيقول زيك كده، ساعات بيجي لي إحساس إنك قريب أبويا مش عارف ليه! – مالهاش علاقة بالقرابة، لكن بالعقل كده، وظيفة في مدرسة حكومية يعني مرتب ثابت ومضمون ولك معاش وموظف، بالنسبة لطريقة تفكير راجل عاوز لبنته مستقبل مضمون زي ما بيقول، فالبحث عن الشكليات المفروض ميهموش كده، فإيه الفكرة من الرفض ده إلا لو كان بيحاول الرفض بشياكة علشان القرابة! تنهد محسن بقوة: – أنا نصيبي كده يا أستاذنا، يعني مكملتش تعليمي، واضطريت اشتغل من زمان علشان أساعد أبويا في مصاريف اخواتي وخالي برضه عاوز عريس يكون حاجة حلوة لبنته، لازم يحط شروطه حتى لو كان ابن أخته، أهه نصيبي بقى وراضي به. – لأ يا محسن موضوع النصيب ده حجة خايبة بنعلق عليها غلطاتنا ربنا وهب لنا عقل نفكر بيه، العقل ده هدية كبيرة من ربنا، لكن التعب اللي بيحصل إن الإنسان بينسى إنه مسؤول عن أغلب الحاجات اللي بتحصله ولما بيزعل من نفسه أوي بيحاول يلاقي شماعة يعلق عليها إخفاقاته! كان محسن يشعر بعجز عقله في فهم ما يقوله يوسف، فحاول المراوغة وإنهاء الحوار: – شوف يا أستاذ يوسف أهه الكلام أخدنا وبرضه الشاي برد ومشربتوش. فهم يوسف ما يرمي إليه محسن وأطاع رغبته في إنهاء الحوار: – طيب روح هات لي غيره، ومتنساش السكر. لم يشأ يوسف أن يخبر محسن بأن سوء تفكير والده هو سبب معاناته الآن، فكيف لرجل فقيرًا أن ينجب هذا العدد من الأطفال، دون أي مسؤولية، ثم يدرك أن هناك أزمة مالية، بسبب هذا العدد الكبير فيقرر أن يضحي بأحدهم كقربان لغباؤه، ويجعله يترك الدراسة ليشاركه الإنفاق على باقي القطيع!
تم نسخ الرابط