كف مريم….بقلم عاطف عبد الدايم

كف مريم….بقلم عاطف عبد الدايم
كف مريم….بقلم عاطف عبد الدايم
جلس خالد نجم الدين في صالة منزله، يمسك ألبوم صور يتصفحه. كان خالد، الذي يعمل مديرا لإحدى الشركات العقارية، قد تجاوز الخمسين بسنوات قليلة. تزوج خالد من زميلته في الجامعة صفاء، التي قررت بعد حملها الأول أن تكتفي بدور الزوجة والأم فقط، خاصة بعد أن علمت أنها سترزق بتوأم. كان هذا الخبر بالنسبة لخالد وصفاء أسعد ما حدث لهما في حياتهما، منذ أن تعارفا في أول سنة لهما في الكلية. جلس خالد وحيدا في صالة الشقة، التي جعل إضاءتها خافتة، وكأنه أراد أن يعيش لبعض الوقت مع ذكريات عائلته في ألبوم الصور الذي يتصفحه. جلس لفترة يقلب الصور بهدوء، وبدت على وجهه ابتسامات متقطعة لا تحمل الكثير من السعادة، بينما كانت الدموع التي تملأ عينيه تعبر بصدق عما بداخله من حزن. توقف أمام صورة لطفلتين غير متشابهتين (حديثي الولادة)، تحملهما سيدة في الثلاثينيات، هي صفاء زوجته، التي كانت تبتسم ابتسامة باهتة، أسند خالد رأسه، وهو يسمع في داخله حوارا دار بينه وبين صفاء. ما تخافيش يا صفاء .. إن شاء الله هتبقى كويسة. الدكتور بيقول مش هتعيش أكتر من شهر! بس أنا حاسس إنها هتعيش -إن شاء الله-. الدكتور قال إنها وقت الولادة حصلها نقص في الأكسجين، وده أثر عليها.. تفتكر ممكن تعيش؟! هتعيش يا صفاء.. هتعيش إن شاء الله. استمر خالد فيما يفعله، وهو يقلب صفحات الألبوم. توقف عند صورة تظهر فتاتين في السابعة من العمر، وهما تضحكان في الصورة.  بدت دموع خالد تقفز من عينيه رغما عنه، وهو يمرر يديه بحنان على وجه الفتاتين في الصورة. كان الحزن يعتصره، ويداه تتلمسان وجهيهما الضاحكين ببراءة. ++++++ في المنزل نفسه الذي كان يجلس به خالد منذ خمسة عشر عاما، في زمن التقاط
صورة الفتاتين، كانت الفتاتين اللتان ظهرتا في الصورة، مريم وملك، يركضان وراء بعضهما، وهما تضحكان بسعادة وحيوية. جلست صفاء، زوجة خالد، التي كانت لم تتجاوز الخامسة والثلاثين من عمرها، على الأريكة بالقرب منهما، وهي تنظر لهما بأسى. بجوارها، كان خالد يجلس، ينظر إلى مريم وملك بسعادة، متأملا لعبهما وضحكاتهما المجلجلة، وكأنه متوحد معهما لا يرى سواهما. التفتت صفاء إليه، وهي ما زالت تحمل نفس نظرة الحزن في عينيها. مريم كل يوم بتتأخر عن اليوم اللي قبله. جملتها أعادته إلى الواقع مرة أخرى، ليرد عليها بنبرة حزينة، محاولا الدفاع عن موقفه: إحنا كنا عارفين إن ده ممكن يحصل علشان اللي حصلها أول ما اتولدت.. الحمد لله إنها لسه عايشه. – مستواها أقل بكتير من أختها ومن زمايلها.. المدرسة بتاعتها بتقول إن الأحسن إنها تقعد في البيت. ينظر خالد إلى مريم التي تجري وراء ملك بسعادة، وهي تضحك بقوة، باديا على وجهه الحزن مما قالته صفاء. تقعد في البيت! ليه؟! تنظر إليه صفاء بتردد، ثم تنظر إلى مريم والدموع في عينيها. مفيش حل تانى يا خالد.. بلاش نضحك على نفسنا.. مريم مش هتستفيد حاجة من وجودها في المدرسة.. بالعكس هتعطل ملك.. أنت باباهم ولازم أنت اللي تاخد القرار. لم يتهرب خالد يوما من مسؤولياته، فهو دائما ما كان يتحمل المسؤولية حتى عن عائلته منذ أن كان صغيرا، كان يلجأ إليه الجميع ليحل لهم مشكلاتهم، ولكن هذا القرار الذي تريد منه صفاء أن يتخذه، كان قرارا صعبا على نفسه، فظروف ولادة مريم جعلتها تولد بتأخر عقلي، حذرهما الطبيب منه منذ ولادتها، فقد قضت في المستشفي تحت الرعاية الطبية فترة طويلة حتى استطاع الأطباء إنقاذ حياتها. على عكس شقيقتها التوأم ملك، التي ولدت بصحة جيدة. الفترة الماضية، بدأت
ملك تشتكي مما يفعله الأطفال مع مريم، مما جعلها تقع في العديد من المشكلات مع زملائها. كان لديه أمل أن استمرار مريم في المدرسة مع شقيقتها ومع زملائها، سوف يحسن من حالتها العقلية، ولكن يبدو أن الأمور لا تسير على هذا النحو، وأن عليه أن يختار الآن. +++++ (صوت ضوضاء الأطفال في المدرسة خليط من صراخ وضحكات الأطفال) تتحرك مريم بخوف وارتباك، مرتدية ملابس المدرسة، وحقيبتها معلقة خلف ظهرها، كانت تمسك بحبلي الحقيبة المتدليين على كتفيها، وهي منكمشة بخوف. فجأة، ظهرت حولها ثلاث فتيات في عمرها نفسه، يرتدين ملابس المدرسة، ويضحكن ويدفعنها بأيديهن بينهن، ومع كل ضربة تزداد مريم انكماشا وخوفا. في أحد الأركان، ظهرت ملك شقيقتها، مرتدية ملابس المدرسة مثل شقيقتها. نظرة مريم إليها جعلتها تهم بالاقتراب منهن، لكنها تراجعت وأشاحت بوجهها بعيدا. بدت الفتيات الثلاث وقد زدن من حدة دفعهن لمريم. أسقطن حقيبتها من على ظهرها، ثم أسقطنها أرضا، وهن ما زلن يضحكن. تشبثت بيديها في الأرض، وهي تنظر حولها بخوف، هاتفة بصوت متقطع وبنبرة بطيئة: مــ .. لك ..ااااالحقيني .. البناااات دول بيضربوني. كانت ملك قد ابتعدت بالفعل عن مريم وهي تبكي، إذ لم يكن في استطاعتها مواجهة كل حالات التنمر التي تتعرض لها مريم بسبب حالتها العقلية، التي ما إن لاحظها الأطفال في المدرسة حتى أصبحت مريم لعبتهم المفضلة. توقفت ملك وهي تبكي، ثم التفتت لترى الفتيات يدفعن مريم بينهن، وهي لا تقوى على فعل شيء بعد أن سقطت حقيبتها على الأرض، وهي تحاول رغم دفعهن لها، التقاط حقيبتها باستماتة. لم تستطع ملك الهروب أكثر من ذلك، ألقت حقيبتها التي كانت تحملها، وركضت باتجاه مريم والفتيات، لتدخل في شجار عنيف لحماية مريم التي تعلقت بها بقوة. +++++ وقف خالد مع صفاء أمام باب الشقة، منتظرين خروج ملك ومريم من غرفتهما. اليوم ليس يوما عاديا؛ اليوم سوف يخبر مريم أنها لن تذهب مع شقيقتها إلى المدرسة. يبدو خالد متوترا، وهو يتبادل النظرات مع صفاء، التي تحاول أن تبدو متماسكة وتخفي توترها هي أيضا. تخرج ملك مع مريم من غرفتهما، وهما ترتديان ملابس المدرسة، وكل منهما تضع حقيبتها خلف ظهرها وتمسكان بيدي بعضهما بعضا. يقف خالد وصفاء أمام باب الشقة، ينظران إلى بعضهما بأسى، محاولين استجماع شجاعتهما. تتقدم صفاء من مريم وملك، وتنحني على ملك وهي تبتسم بهدوء: مريم مش هتروح معاكي النهاردة المدرسة يا ملك. تنظر ملك باستغراب إلى صفاء، ثم تنظر إلى مريم التي ما زالت ابتسامتها البريئة مرسومة على وجهها: – ليه؟ – ما تسأليش يا ملك، إحنا عارفين مصلحتك كويس. قالتها أمها بلهجة حازمة، جعلتها لا تملك خيارا آخر. نظرت ملك إلى يد مريم المتعلقة بيدها، ثم سحبت يدها بهدوء. تتسلل ملامح الخوف إلى وجه مريم بالتدريج، وهي ترفع يدها لأعلى، وقد شعرت أن ملك نسيت يدها بلا قصد، وكأنها تدعوها أن تمسك بيدها مرة أخرى. ابتعدت ملك بهدوء، وأخذها خالد وخرج بها من باب الشقة. همت مريم بالتحرك لتلحق بملك، ولكن يد صفاء أمسكت بها بقوة. حاولت مريم الإفلات من يد صفاء وهي تصرخ: ملك .. ملك .. أنا عايزة أروح مع ملك. وقفت ملك أمام باب الشقة، ما زالت تنظر إلى مريم بحزن، وهي تصارع يدي أمها وتحاول الإفلات منها. كانت تصارع بكل قوتها، وتمد يدها إلى ملك لكي تمسك بها، ولكن لم تكن ملك تستطيع أن تخالف ما قالته والدتها. تحركت ملك مبتعدة عن الباب، وأغلق خالد الباب بهدوء. داخل الشقة، واصلت مريم محاولاتها الإفلات من يد صفاء، صارخة، حتى أغلق الباب تماما. كانت تلك هي المرة الأولى التي تفلت فيها ملك يدي مريم. ++++++ أمام مدرسة ملك، جلس خالد داخل سيارته في انتظار خروج مريم من المدرسة. ملك تقترب من السيارة وتفتح الباب الخلفي، وتجلس وهي تتجنب النظر إلى والدها. كان خالد يتوقع رد فعل ملك هذا، فهي لم تبتعد من قبل عن مريم، ورغم إنها كانت تعاني وجود مريم معها في المدرسة فإنها لن تتقبل بسهولة أن تذهب إلى المدرسة من دونها. ينظر خالد إلى ملك بهدوء وهو يبتسم: تعالي اقعدي أدام يا ملك. تنظر ملك إلى المقعد الأمامي بحزن؛ لم يطلب والدها منها أبدا أن تجلس بجواره، فقد تعودت أن تجلس هي ومريم في الخلف. وفي بعض الأحيان كانت مريم تحب أن تجلس بجانب والدها، وتبقى في نفس الوقت متعلقة بيد ملك التي تجلس في الخلف.  ولكن مريم الآن غير موجودة بأوامر من والديها.  يبدو الضيق على وجهها، ثم تفتح باب السيارة وتتجه إلى الباب الأمامي وتفتحه، وتجلس بجانب والدها. يربت كتفها بهدوء: أنا عارف إنك زعلانة علشان مريم مش معاكي. يبدو الحزن على وجه ملك، وهي تنظر إلى والدها. هي مريم كده مش هتروح معايا المدرسة تاني خالص؟ ومش هتقدر تبقى زيك.. وجودها معاكي هيعطلك ومش هيفيدها بحاجة.. وبعدين ما تقلقيش عليها.. ماما كلمتني وأنا في الشغل وقالتلي إنها طلعت تلعب على السلم وإنها كويسة ومش بتعيط. جعلها كلام والدها تطمئن بعض الشيء على مريم، فقد ظلت طوال اليوم صامتة وهي تفكر في مريم وفيما تفعله دونها الآن.. فهي لم تعتد الابتعاد عنها كل هذه الفترة. كانت تنتظر انتهاء اليوم
تم نسخ الرابط